عادي
صدر في الشارقة

«المرأة في الطابق العلوي».. العزلة تحاصر الإنسان المعاصر

00:18 صباحا
قراءة 5 دقائق
كلير مسعود

الشارقة: علاء الدين محمود

ما أصعب أن يعيش الإنسان في ظل الهامش، في ركن قصي يكاد يتوارى في الظلال، هي حياة تتأكد قسوتها عندما تكون نتاج اختيار المرء، أن يركن إلى العزلة عن ذاته، حيث تبدو هذه القضية شائكة ومعقدة، ولها تداعياتها السيئة؛ إذ إنها تلغي حضور الشخص وتحوله إلى شبح لا يكاد يرى، حيث يلجأ إلى الانزواء والتواري عن البشر الذين حوله. رواية «المرأة في الطابق العلوي»، للكاتبة الأمريكية الجزائرية الأصل كلير مسعود، الصادرة عن دار روايات، في طبعتها الأولى عام 2020، بترجمة: إيمان أسعد، تضع القارئ أمام قضية التهميش والعيش في الظلال.

يفتح العمل السردي الباب واسعاً أمام القارئ لممارسة فعل إثارة الأسئلة المتعلقة بذلك النوع من الحياة وكيفية اختراقه وتغييره والثورة عليه، وكذلك التأمل في مصائر البشر وشخصيات الرواية الذين يتصفون بصفات متباينة يغلب على بعضهم الخير، فيما تميل كفة الشر لدى الآخرين منهم.

العمل السردي يجعل المتلقي متحفزاً ومنشغل الذهن بتفاصيل الحكاية ومتابعة خيوطها المبعثرة، وتجعله يحاور ذاته ويغوص في أعماقها، ليتخير شبيهه من أبطال قصة الرواية المعقدة التي تبدو غامضة في كثير من منعطفاتها، كما أن الرواية تطل بصورة كبيرة على الإنسان الفرد في وقتنا الراهن اليوم، وكيف يواجه ثقل العالم بمفرده، وهو يعاني الوحدة التي قد تكون مفروضة عليه، وربما تصبح خياراً يلجأ إليه المرء بكامل وعيه، كنوع من الرفض أو الاحتجاج لنمط الحياة السائد، هي صرخة مكتومة لكن للأسف، لن يسمعها أحد؛ لأن الجميع في انشغال تام بذواتهم وحيواتهم الخاصة.

  • قصة

بطلة الرواية امرأة تدعى نورا إلدريدج، في الأربعينات من العمر، عازبة، فنانة تشكيلية تعمل معلمة فنون للأطفال، يثق بها الجميع، لكن لا يلاحظها أحد، كأنها غير مرئية، فلا توجد سوى في هامش نجاحات الآخرين. تعيش دور الصديقة الحَنون والجارة المُنجِدَة، والمعلّمة المتفانية، والفنانة التي تؤجل مشاريعها دوماً؛ أي لا وجود لها كشخصية مستقلة بذاتها لها همومها وقضاياها واهتماماتها وحياتها الخاصة، بل هي دائماً جزء من قصة آخرين، عامل مساعد في حل مشاكلهم أو لنجاحاتهم، تقوم بدورها هذا في كل مرة ثم تتوارى في الظلال، لا تحاول أن تشق طريقها الخاص في الحياة من أجل تحقيق طموحاتها وأحلامها؛ لأن العمل من أجل ذلك المسعى محكوم عليه بالتأجيل، ربما يصح أن نقول إن هذه المرأة هي عنوان للإيثار والعمل في خدمة في الآخرين إلى درجة نسيان نفسها، وهنا تكمن المعضلة، فلئن كانت مساعدة البشر فضيلة، فإن اهتمام الإنسان بقضاياه هو كذلك من الفضائل العظيمة، حيث إن الإنسان عندما ينسى نفسه من أجل الآخرين يكون في كثير من الأحيان عرضة للاستغلال.

  • منعطف

لكن حياة نورا لا تمضي بهذه الطريقة طوال القصة، وذلك عندما وصل الجيران الجدد وهم عائلة شاهيد إسكندر، الأكاديمي اللبناني، وزوجته سيرينا، الفنانة الإيطالية، وابنهما رضا، هنا تبدأ تفاصيل مختلفة وجديدة، حتى تصطدم بطموح سيرينا الفنّي الذي لا يتورّع عن فعل أي شيء مهما كان دنيئاً، فيحدث ما لم تتوقعه نورا في حياتها كلها، وتشعر بما لم تشعر به من قبل، إنه الغضب، تلك المشاعر التي انفجرت مرة واحدة لشخصية كانت شديدة الهدوء أهملت نفسها وعزلتها في غرفتها الخاصة في الطابق العلوي، لتظل حبيسة ذلك المكان، وبشكل أكبر كانت تلك المرأة سجينة هواجسها الخاصة وتصوراتها الغريبة، وعلى الرغم من أنها تساعد الآخرين قدر المستطاع، فإنها شيدت حول نفسها أسواراً لا تريد لأحد الاقتراب منها، على الرغم من أنها تمتلك الكثير من المواهب، فهي فنانة ومصممة، لكنها تحاول أن تخفي إبداعاتها ومواهبها تلك عن الناس، حتى لا يكون ذلك الأمر باباً يدخل منه البشر الذين من حولها في حياتها فيخترقون خصوصيتها التي تحرص عليها، وربما لأن شخصية بتلك المواصفات كانت عرضة في نهاية الأمر إلى أن تثور وتتفجر في دواخلها براكين من الغضب.

  • عتبة نصية

ولعل المؤلفة في هذه العمل، أرادت أن تلفت انتباه القارئ منذ الوهلة الأولى إلى طبيعة الرواية وعوالمها وموضوعها الأساسي الذي يقع بين ثنائية «المرأة والتهميش»، بالتالي هي تضعنا أمام قضيتين مرتبطتين ببعضهما ارتباطاً وثيقاً، خاصة في عصرنا الحديث؛ الأولى هي العزلة وتداعياتها، والثانية هي قضية المرأة، وقد قامت الكاتبة بتعزيز هذه المعاني وتعميقها من خلال تسمية الرواية ب«المرأة في الطابق العلوي»، فقد نجح هذا العنوان في أن يكون بالفعل عتبة نصية مفضية إلى عوالم العمل وكاشفة له، فنحن أمام قصة بطلتها امرأة، وموضوعها التهميش، حيث إن النساء في معظم مجتمعات العالم هم ضحايا ذلك التهميش، وهن اللواتي يعانين ويلاته، فيهن من ينجون، وهناك من يلجأن إلى الاعتزال وحياة الوحدة القاسية المريرة، لكن في كل الأحوال فإن التمرد قادم، فالمؤلفة، باعتبارها هي نفسها امرأة، أرادت أن تنتصر لقضية النساء في هذا العمل، عبر غضب بطلة الحكاية، ولكن الكاتبة فعلت ذلك الأمر بطريقة تخدم القصة.

  • صوت

ولأنه لا أحد يستطيع أن يحكي عن قضية وشجون النساء إلا هن أنفسهن، فإن براعة الكاتبة تكمن في أن جعلت من بطلة القصة هي الصوت الأساسي في العمل، إذ هي التي لعبت دور الراوي، وظلت تحكي عن نفسها، وعن همومها وطموحاتها وأحلامها التي طالما أجهضت، ليسلمها ذلك الإخفاق المتكرر إلى الحزن وحياة البؤس، وكأنها تتلذذ بتعذيب ذاتها، أو ربما ذلك ما سيفهمه المتلقي، فهي ترفض، بمحض إرادتها أن تكون بطلة، أو شخصية محورية في الحياة، كما أنها تظل تحكي عن الآخرين؛ أي بقية الشخصيات في الرواية من خلال منظورها الخاص، وتصوراتها عنهم، وكذلك فإن البطلة تظل تحاور ذاتها وتبرر الكثير من أفعالها من خلال مخاطبتها نفسها، ومن خلال محاوراتها واحتكاكها مع الآخرين، يتأكد لها أن الجميع يسعون لاستغلاها، فتخلص إلى أن الأنانية متأصلة في كثير من البشر.

  • صدى

الرواية وجدت صدى جيداً لدى القراء والكتاب والنقاد وصفحات الصحف الثقافية، حيث قالت عنها الكاتبة التركية أليف شافاق: «أحببت جمال الروائية الغاضب، وكلماتها الصادقة»، بينما تحدثت عنها صحيفة «نيو يوركر»، بالقول: «تصرّ الروائيّة على اكتناه حالة نفسيّة معقّدة قلما كتب عنها بهذه البراعة»، فيما وصفت صحيفة «وول ستريت»، الرواية بأنها: «استقصاء حاد لطبائع الجشع والارتزاق التي تستأثر بالفنان في لجة خلقه عمله الفني»، بينما تغزلت صحيفة «نيويورك تايمز»، في الرواية بالقول: «إن السرد الذي تكتبه كلير مسعود يجذب ياقة قارئه بعنف».

  • إضاءة

تلك العوالم السردية التي تجمع بين الجمال واللغة الرفيعة وحضور الأفكار والرؤى في ذات الوقت، شيدتها كلير مسعود، التي حققت الكثير من النجاحات في مجال السرد، وحازت عدداً من الجوائز من الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب، ولها العديد من الأعمال الروائية، من بينها «أطفال الإمبراطور» و«الفتاة التي تحترق»، تهتمّ في رواياتها بالحيوات التي لا تجري وفق ما خُطّط لها، والقصص التي يشكّلها الناس لأنفسهم كي يُكملوا حياتهم وعلاقاتهم بعد ذلك.

اقتباسات

  • «الغضب مضطرمٌ فيَّ حد إشعال النار في أي بيت أصادفه في طريقي».
  • «لن أموت إلا وقد عشت حياتي البائسة كما أريد وأشتهي».
  • «بيت فيه المرح كان أشد رعباً بكثير مِن البيت المسكون».
  • «غاضبة حد رؤيتي الدافع وراء سير فيرجينيا وولف نحو النهر حاملة الصخور في جيوبها».
  • «كُل مَا أردْتُه هو طريق إلى الخَارج. لكن الأبواب كانت مدخلاً إلى غُرف أكثر جنوناً».
  • «أخشى أن تفوتني الحياة».
  • «يا لها من غطرسَة، ظنِّي بأن بيدي أن أكون فرداً قيِّماً في العائلة والمجتمع».
  • «معظمنا أراد الطيران. هل تذكر تلك الأحلام؟».

دار روايات

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4sbjpcnz

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"