الأيديولوجيا والسلطة

04:05 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

على الرغم من وجود اتفاق فكري كبير، على أن الأيديولوجيا هي وعي زائف بالواقع، أو وعي غير مطابق للواقع، إلا أن الأيديولوجيا تبقى إحدى الحوامل/الروافع الأساسية للعمل السياسي، خصوصاً في بعدها الخلاصي، حيث تعِد الأيديولوجيا بعالم أفضل، مقتربة بذلك من اليوتوبيا، حيث الوعد بخلاص المجتمع من مشكلاته المستعصية، ومواجهة التحديات والأخطار المحدقة به. ومن هذا المنطلق، فإن الأحزاب السياسية في تبنيها لأيديولوجيا محددة، تراهن على البعد الخلاصي الذي تحمله طبقات الفكرة الأيديولوجية نفسها، وعلى قدرته في ملامسة أحلام الناس، في شرط تاريخي محدد، حتى لو لم تعترف تلك الأيديولوجيا، أو من يحملونها، بحدود الشرط التاريخي لعالم الأفكار.
إن تاريخنا المعاصر، شرقاً وغرباً، هو في صميمه صراع أيديولوجيات، من دون أن يعني هذا الاعتراف بهيمنة الأيديولوجيا، اختزال الصراعات إلى مجرد صراعات أيديولوجية، ففي صلب الأيديولوجيا دفاع مستميت عن المصالح؛ مصالح الدول والمجتمعات والأفراد.
وقد شكّلت الأيديولوجيا ببعدها الخلاصي، الغطاء المناسب للصراعات الدولية والاقتصادية، وصراع الجماعات السياسية من أجل الوصول إلى السلطة، وقد مات ملايين البشر في القرن العشرين، تحت رايات أيديولوجية عدة، حملتها دول وجماعات وأحزاب، وقادت إلى حروب طاحنة، ما زال بعضها مشتعلاً إلى يومنا هذا، خصوصاً في قلب الشرق الأوسط.
ما من أيديولوجيا تطرح نفسها عدوة للإنسان؛ بل هي تستمد قوتها من طرح نفسها مدافعة عنه، وعن حقوقه ومستقبله، وهي في تبنّيها لجملة من القيم «النبيلة»، تضع نفسها رافعة لتقدم الإنسان وازدهار المجتمع وقوة الدولة، لكن الفرق يبقى شاسعاً على الدوام، بين الفكرة الأيديولوجية وبين المعطى المعرفي؛ أي حقائق الواقع كما هي عليه، وليس كما تتخيلها الرؤوس المحمّلة بالأيديولوجيا، حيث يصبح كل استغراق في الأيديولوجيا شكلاً من أشكال الافتراق عن الواقع الموضوعي، ونبذاً لمعطياته.
وخلال الحرب الباردة، عرف العالم صراعاً أيديولوجياً طاحناً بين الشرق الاشتراكي والغرب الليبرالي، فقد شكّلت الأيديولوجيا الاشتراكية على مختلف تنويعاتها ضرباً من ضروب الخلاص البشري من الاستغلال الإنساني، بأشكاله المتعددة، الذي تقوده الرأسمالية، وفقاً لمنظومة الدول الاشتراكية، وفي مقدمتهم الاتحاد السوفييتي، في الوقت الذي طرحت الليبرالية شكلاً خلاصياً آخر، يقوم على حرية الأسواق والأفراد والأفكار، بعيداً عن احتكار الدولة لقيادة الاقتصاد والمجتمع.
بالطبع، لم تتمكن الأيديولوجيتان الاشتراكية والليبرالية، من بناء عالم أفضل، فقد سقطت المنظومة الاشتراكية، وممثلها الاتحاد السوفييتي، تحت وطأة تناقضات عديدة، من بينها تناقضات النموذج المعتمد لإدارة الدولة والمجتمع، لكن الليبرالية الغربية، في المقابل، زادت من احتكارية الشركات للاقتصاد والمال، واحتكارية النخب المالية، التي تمتلك نفوذاً عابراً للقارات، وأسهمت ولا تزال في إفقار مجتمعات عديدة، وفي إشعال المزيد من الحروب، خدمة لمصالحها.
في العالم العربي، الذي عرف صراعات عدة، بين تيارات أيديولوجية مختلفة، تمكن بعضها من الوصول إلى السلطة، استخدمت الأيديولوجيا في معظم الحالات للتغطية على مشروع الوصول إلى السلطة.
فقد حملت الأحزاب القومية على سبيل المثال لا الحصر، بخلطاتها المتعددة مشروعاً تحررياً على مستوى الداخل والخارج، ورفعت شعارات مثل التحرر من الاستعمار والإمبريالية، وتحرير فلسطين، وحقوق العمال والفلاحين، وتطوير الزراعة والصناعة، وتحرر المرأة، وغيرها من الشعارات السياسية والاجتماعية، وخاضت تلك الأحزاب صراعات مع منافسيها من القوى الليبرالية واليسارية والإسلامية، وتمكنت من الوصول إلى سدة الحكم، والاستمرار فيه لعقود من الزمن.
لم تتمكن الأحزاب القومية، بعد وصولها إلى السلطة، من تحقيق الشعارات التي رفعتها قبل الوصول إلى السلطة، بل استخدمتها وفي ظروف متباينة من أجل إعاقة المشاريع الأيديولوجية الأخرى؛ بل وتقزيمها، وزج رموزها في حالات كثيرة في السجون، وتحوّلت السلطة بحد ذاتها، إلى غاية تبرر الاستمرار في الحكم، بعيداً عن الأهداف الأيديولوجية/«الخلاصية»، بل والأسوأ من ذلك إن معظم القضايا التي دافع عنها خطابها الأيديولوجي فعلياً، تراجعت في الواقع الموضوعي، وبعضها وصل إلى الحضيض.
إن تحرير السياسة في العالم العربي من الأيديولوجيا، أمر لا مناص منه، لتجنب المزيد من التدهور في أوضاع المجتمعات والدول، والبديل الموضوعي للأيديولوجيا، هو اجتراح رؤى مطابقة للواقع ومشكلاته، إضافة إلى تحرير السلطة نفسها من الأيديولوجيا، والتمييز بين الدولة والسلطة، على اعتبار أن الدولة هي الثابت، والسلطة هي المتغيّر، لكن هذا السياق من أجل بناء علاقات جديدة في السياسة، سيحتاج إلى نضال طويل، وإلى مناخات ومساحات أوسع من الديمقراطية، وربما بات علينا الاعتراف بأن تأخير مسيرة الديمقراطية في العالم العربي، سيعني المزيد من الصراعات الأيديولوجية، بصيغ أكثر تدميرية عن السابق.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"