سابقة مستغربة في عمل الأمم المتحدة

03:06 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي
حدث مفاجئ ومقلق في الأمم المتحدة، وبالذات في مركز قيادة المنظمة الدولية، فقد وقفت الأمانة العامة ضد تقرير أعدته اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) حول الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة واستغرق إعداده نحو 21 شهرا. التقرير يصف السلوك «الإسرائيلي» بأنه يعتمد أسلوب الفصل العنصري حيال الرازحين تحت الاحتلال، وإزاء اللاجئين الفلسطينيين المشردين في المنافي. وكان من المثير حقاً أن تتخذ الأمانة العامة موقفاً سلبياً وغير مسوّغ، حيال جهد بذلته لجنة تابعة للأمم المتحدة، بل إنها تتبع وبصورة مباشرة الأمانة العامة.
الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس نأى بنفسه عن التقرير، ومن الغريب أن المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفن دوجاريك قد ذكر الأربعاء الماضي 15 مارس/آذار أن «التقرير كما هو لا يعكس آراء الأمين العام وقد تم وضعه من دون مشورة مسبقة مع الأمانة العامة في المنظمة الدولية»، فهل يعقل أن لا تكون الأمانة العامة على بيّنة من أعمال لجنة تتبع لها مباشرة؟ علماً أنه تم البدء بإعداد التقرير منذ يونيو/حزيران 2015. لم يكتفِ الأمين العام بموقفه الغريب هذا القائم على التنصل، فقد زاد على ذلك بالطلب من مديرة «الإسكوا» د. ريما خلف المشرفة على إعداد التقرير بسحبه، وقد قوبل هذا الطلب بالرفض من خلف التي تزايدت الضغوط عليها داخل الأمم المتحدة، ما حملها على تقديم استقالتها، وقد تم قبول الاستقالة. لكن الضجة حول ما حدث لم تتوقف.
فالسلوك غير المهني للأمانة العامة أثار شهية وسائل الإعلام ومواقع التواصل لمتابعة هذه القضية الغريبة على تقاليد أكبر مؤسسة أممية، والتي تشكل سابقة مستهجنة، ونقطة سوداء في سجل الأمانة العامة.
والبادي أن حداثة عهد الأمين العام في موقعه (منذ بداية العام الجاري 2017) قد أوقعته في ما حدث. وكانت الدول الأعضاء في اللجنة (18 دولة) طلبت إعداد هذا التقرير الذي خرج يحمل عنوان «الممارسات «الإسرائيلية» نحو الشعب الفلسطيني ونظام الفصل العنصري»، ويضم 74 صفحة. وكان ذلك قد تم في عهد الأمين العام السابق بان كي مون. وحين يُنسب إلى الأمين العام الجديد القول إن العمل بالتقرير قد تم بغير مشورته، فهو لم يجانب الصواب، إذ لم يكن آنذاك في موقعه الحالي. ومن أبسط قواعد العمل المؤسسي انتظام العمل بصرف النظر عن بقاء الأشخاص في مواقعهم القيادية، أم لا. ولا شك أن غوتيريس يدرك ذلك جيداً وعلى الأقل بحكم عمله في الأمم المتحدة، كمفوض سامٍ في المنظمة الدولية لشؤون اللاجئين. ومن الجلي الآن أن ضغوطاً سياسية من وراء الكواليس حملت الأمين العام على اتخاذ موقفه هذا، الذي يُجانب الحيادية والموضوعية، وخاصة أن الأمانة العامة لم تقدم أية تحفظات منهجية على إعداد التقرير، وتم الاكتفاء بتحفظ عام بلغ مرحلة رفض التقرير، ما ينبئ بأن الرفض قام على أسس أخرى( سياسية بطبيعة الحال) لا علاقة لها بالمنهج المتبع أو حتى بالصياغة.
المتحدث باسم الأمم المتحدة دوجاريك قال الجمعة 17 مارس/آذار «إن الأمين العام قبل استقالة خلف لأنه لا يقبل قيام مساعد له أو أي مسؤول كبير في الأمم المتحدة تحت سلطته بإجازة نشر أي شيء من دون التشاور مع الإدارات المختصة وحتى مع الأمين العام نفسه».
إذا كان الأمر يتعلق بمخالفة تنظيمية داخلية تُنسب لمسؤول ما (المديرة المستقيلة ريما خلف)، وبافتراض صحة ذلك، فمن المنطقي أن لا تتعدى الإجراءات شخص المدير لا التقرير نفسه، وأن لا يذهب التقرير وهو حصيلة جهد استقصائي جماعي، ضحية التباسات إدارية أو أخطاء تنظيمية. وبحيث يتم الفصل بين التقرير كوثيقة معتمدة للأمم المتحدة، ذات صفة مرجعية، وبين خطأ يتعلق بظروف نشر هذا التقرير. والذي حدث وكما أوضحت خلف في مؤتمر صحفي عقدته الجمعة في بيروت حيث مقر اللجنة، أن الأمين العام طلب منها سحب التقرير ولم يكتفِ بتسجيل تحفظ على ظروف النشر، وهو ما رفضته خلف، وأتبعته باستقالتها التي تناقلتها وسائل الإعلام طوال الأيام الثلاثة الماضية.
وما يثير الارتياب هو التدخل المبكر للسفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي، فقد دعت صراحة إلى سحب التقرير، وقالت في هذا الصدد إن «الأمانة العامة كانت محقة في النأي بنفسها عن التقرير» ودعت إلى ما أسمته «باتخاذ خطوة أخرى بسحب التقرير بأكمله». وهو الإجراء الذي سارع الأمين العام إلى اتخاذه، في موقف تفوح منه رائحة لا تخطئها الأنوف، وهي الرائحة السياسية، فيما عقّبت خلف قائلة: «استقلت لأنني أرى من واجبي ألا أكتم شهادة حق عن جريمة ماثلة، وأصرّ على كل استنتاجات التقرير».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"