استرجاع الأنين من مهاوي النسيان

02:29 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسن العديني

‫‎‎‬كثيراً ما يسبق الشعر العلم. ولا أتحدث عن الخيال العلمي حيث المشتغلون بالعلوم التطبيقية يقتفون آثار الرسامين والقصاصين وإنما أتكلم عن علم السياسة وعن أحد فروعه على وجه التحديد وهو التحليل السياسي. وظيفة التحليل السياسي هي التنبؤ وهذا تقوم به مراكز أبحاث تضم خبراء من تخصصات مختلفة تشمل الاقتصاد والاجتماع والثقافة وعلم النفس وكافة العلوم الاجتماعية وحتى الطبيعية، ذلك أن على المحلل السياسي أن يمسك بعنق الظاهرة السياسية في تفاعلاتها مع الظواهر الأخرى لكي يصل إلى استنتاجات وبدائل تعين صانع القرار. إحدى مشاكل العالم العربي أنه يترك التحليل السياسي لأفراد لا يتمتعون بالخيال ولا يمتلكون العلم ولا الخبرة.
ولا علاقة لهذا بالطبع بالابتذال الذي تمارسه القنوات الفضائية حين تطلق صفة المحلل السياسي على من يعرف ومن لا يعرف. وإنما قصدت أن شطحة الشعر قد تسرق نبوء ة عالم السياسة وتحط في المستقبل قبله.
الشعر رؤيا بحسب أدونيس، ومع اختلاف المعنى فإنني احسب أن أعظم الروائيين هو «محمود درويش». لقد لاحظت أن كثيرين يعتقدون أن قصيدته «بيروت» كتبت بعد الاجتياح «الإسرائيلي» للبنان 1982والقليل من يعرف أنها ألقيت في مهرجان شعري أقيم في قلعة الشقيف جنوب لبنان في 1981. أما دموعه على لبنان فقد سكبها في «مديح الظل العالي» وفيه يذكر برؤيا «بيروت».. هيأنا لبيروت القصيدة كلها.. محمود درويش الطائر المجنح رأى من عليائه حرب 1982بتفاصيلها ودقائقها وشاهد الخروج الأليم والدروب والبحار التي سيسلكها الفلسطينيون إلى منافيهم الجديدة، لكنه أيضا لمح ما يجري الآن إلى درجة أن «حلب» انبجست من رماد بيروت..ندعو لأندلس إن حوصرت حلب.. ولا يكف يتحسس الطرق إلى الأندلس..بيروت من أين الطريق إلى نوافذ قرطبة.. الأندلس هي فلسطين عند محمود درويش و سميح القاسم و نزار قباني وغيرهم وغيرهم. ومن دون الإسقاط التاريخي فإن الأندلس تتجلى باسمها وسمتها يوم يتجدد البكاء عليها ساعة تحترق حلب وتنزلق القدس من بين أصابعنا ولا يقوي الشعراء على هزيمة أنبياء العهد القديم.

أوكانت نبوءة بالفعل أم هو التباس التاريخ وسخرية القدر ؟ ففي استدعاء لمأساة العرب في الأندلس عقدت في الرباط مؤخراً ندوة نظمتها مؤسسة «ذاكرة الأندلسيين المغاربة» اختتمت بإطلاق دعوة للسلطات الأسبانية إلى الاعتراف بحقوق الموريسكيين ومساواتهم بالسفارديم، والمورسيكيون هم العرب الذين بقوا في الأندلس بعد سقوط ممالكهم وتعرضوا للتنكيل والاضطهاد الذي أخذ معهم يهود السفارديم بعد أن عاش هؤلاء في نعيم الحكم العربي. كان البرلمان الأسباني قد صادق في يوليو 2015على مشروع القانون المعدل للمادتين 21،23من مدونة الحالة المدنية ومضمونه رد الاعتبار لذاكرة السفارديم دون أن يعطي اعتباراً للعرب. إن التنبه إلى ذاكرة ينبغي إنعاشها جاء بالقياس على ما حصل عليه اليهود مترجماً في صيغة قانونية وصدر عن هيئة مدنية لا تقف وراءها منظمة رسمية كالجامعة العربية وسواها كما أنه لا علاقة للدول العربية المشغولة بحروب الطوائف الجديدة. والحال أن عرب الأندلس تعرضوا لجرائم تخطت مراراتها حدود قدرة العقل على الاستيعاب. وليس من باب التزيد القول إنه لا جريمة في التاريخ تضاهيها سوى إبادة الهنود الحمر.

كانت الوحشية الأوروبية تصعد واحدة من أعنف الذرى لتسجل في السنة نفسها 1492سقوط آخر الممالك العربية في الأندلس واكتشاف أمريكا.

لاريب أن ضمير اسبانيا المثقل بالذنب دفعها إلى مد جسور الصلة مع العرب وهي من الناحية الثقافية احتفظت بصلات طبيعية لأن جذورها هنا عند الفارابي وابن رشد وابن زيدون وسواهم، ومن الناحية السياسية فقد حافظت على ود خالص وامتنعت عن الاعتراف ب«اسرائيل» إلى ان جاءت الانتحابات بالاشتراكيين في 1982فتخطوا وتحدوا واقدموا على فتح الابواب والنوافذ إلى ««تل أبيب»».

إن شاهداً جديداً على العجز العربي أن تبدأ اسبانيا موقفها من الصراع العربي «الاسرائيلي» بالحرج أمام ورثة الضحايا ثم تنحرف نحو التحيز إلى الذين كان عذابهم على الطريق. رغم ذلك وربما معه فقد صدقت القصيدة، وها نحن نرمي حلب في قلب النار ونفتش عن الاندلس بلا زاد أموي ولا أمل في اللقيا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"