الأمل القادم من واشنطن

03:38 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق

سيمضي بعض الوقت قبل أن يتضح حجم وطبيعة التغيير في السياسة الخارجية الأمريكية، بعد رحيل مستشار الأمن القومي المتشدد جون بولتون الذي استقال وفقاً لروايته، أو أقيل كما أعلن الرئيس دونالد ترامب. بولتون لم يكن الصوت اليميني الصارخ الوحيد في الإدارة، فهناك نائب الرئيس، ووزير الخارجية وكلاهما من صقور المحافظين المتشددين. غير أن بولتون كان الأكثر تطرفاً وهو من دعاة الحرب والتمدد العسكري في العالم. وبسبب موقعه في البيت البيض، كان الأكثر تأثيراً في ترامب المفتقد لأي خبرة في السياسية الخارجية، والمستعد بطبعه للاندفاع نحو مواقف شديدة التطرف.
ولأنه ليس بالرجل العادي الذي يستوي حضوره مع غيابة، فقد أثار الإعلان عن رحيله تكهنات بتبني الإدارة مواقف أكثر اعتدالاً في قضايا خارجية مهمة تعاملت معها بقدر من التعالي والأنانية والتشدد، مع الأعداء والأصدقاء على السواء.
لذلك لم يكن غريباً أن ينزل خبر استبدال بولتون برداً وسلاماً على قلوب دعاة السلام والمنادين بنبذ الحرب والعودة إلى العمل الدبلوماسي كوسيلة ناجعة لحل الخلافات، بدلاً من التلويح بالقوة والإسراف في إطلاق التهديدات وفرض العقوبات. وكان طبيعياً أن تأتي تصريحات أنصار هذا الاتجاه معبرة عن ذلك التوجه، أو بالأحرى الأمنيات بأن تعيد إدارة ترامب للدبلوماسية اعتبارها بعد أن تجاهلتها طويلاً.
وبالفعل فقد أنعش التغيير الآمال بأن تستعيد السياسة الخارجية الأمريكية رشدها، من خلال معالجة موضوعية لقضايا العالم، وفقاً لنظرة واقعية وليس تنفيذاً لأجندة أيديولوجية مغرقة في يمينيتها وهوسها بفرض الإملاءات على الآخرين وتجاهل مصالحهم ووجهات نظرهم.
هكذا مضت السياسة الخارجية الأمريكية طوال العامين المنصرمين من حكم ترامب. وكما يقول أحد المعلقين الأمريكيين فإنه لم يصنع خلال تلك المدة غير افتعال الأزمات الخارجية، ثم التصدي لحلها لكسب تصفيق المؤيدين. على سبيل المثال أسرف في الإساءة للزعيم الكوري الشمالي، ووصفه بألفاظ مهينة، ثم التقى معه ثلاث مرات. وأشعل حرباً تجارية مع الصين بلا مبرر قبل أن يطلق مفاوضات ماراثونية معها للبحث عن تسوية. وانسحب من الاتفاق النووي مع إيران، ثم تحدث عن لقاء محتمل مع رئيسها. ولا يتسع المجال لحصر عشرات الأمثلة الأخرى في علاقته مع الاتحاد الأوروبي وفنزويلا وروسيا وكندا.
ويبدو أنه استشعر أخيراً خطورة ذلك، أو على الأقل بدأ ينصت لنصائح العقلاء. وبغريزته التجارية أدرك أنه لم يحصد مكسباً حقيقياً من تلك السياسة. وأن شعاره «أمريكا أولاً» الذي كان مبهراً في انتخابات 2016 فقد بريقه ولن يجلب له الأصوات في انتخابات التجديد العام المقبل، بعد أن اكتشف الناخبون خواء الحصيلة. يحتاج ترامب إلى بعض الانتصارات الخارجية لتسويقها في حملته الانتخابية الجديدة. ونظراً لاستحالة تحقيق ذلك في وجود بولتون فقد كان التخلص منه ضرورياً.
في كل الأحوال وأيّاً كانت التحولات في سياسة ترامب الخارجية فإن العالم بات أفضل، وسيكون أكثر أمناً بالتأكيد، بعد إبعاد بولتون الذي كان من أشد الداعين للحرب. إنها بالفعل فرصة جديدة للسلام تعززها مطالعة سجل خليفته في المنصب روبرت أوبراين، وهو دبلوماسي محنك عمل مع إدارات جمهورية وديمقراطية على السواء. وهو قادم من عمق مؤسسة السياسة الخارجية. وينظر إليه باعتباره أقرب إلى الخبير التكنوقراطي المتشبع بقواعد وتقاليد العمل الدبلوماسي والحكومي. على العكس تماماً من بولتون القادم من خارج المؤسسة، والذي تحركه وتسيطر عليه وتتحكم فيه دوافعه الأيديولوجية شديدة التطرف والغلو.
دون إسراف في التفاؤل، فإنه لا يمكن تجاهل إشارات إيجابية وإن بدت ضعيفة وخجولة حتى الآن، ولكنها تشي بأن ترامب يتغير، وأنه يتحول تدريجياً إلى رئيس يخضع لقواعد العمل التقليدية التي حاول التمرد عليها، وهو ينصاع إلى متطلبات السياسة ومقتضياتها، وليس حتميات الأيديولوجيات واندفاعاتها. ومفاوضاته السرية التي توقفت مع طالبان تؤكد ذلك التوجه البراجماتي. وستكون معالجته للأزمة مع إيران الاختبار الأول لترامب الجديد.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"