الحلم الهندي

04:35 صباحا
قراءة 4 دقائق

كتب المفكر والفيلسوف العربي البيروني عن الهند مبهوراً بما فيها، مندهشاً من التناقضات على أرضها عبر مراحل تاريخها الطويل، ولقد عشت شخصياً في الهند أربع سنوات (1979 1983)، وأيقنت أن تلك الأمة العظيمة لا يجب أن تؤخذ ببساطة، إذ إن في أعماقها تراكماً حضارياً ثرياً وفي أحشائها الدر كامنٌ . وها أنا ذا أستلهم التجربة الهندية وأنا أتابع المشهد السياسي في بلدي والألم يعتصرني، والحسرة تعتادني، لأننا لم نكن عبر تاريخنا أقل من الهند، بل إن ستينات القرن الماضي في عصر التعاون الهندي - المصري وتأسيس حركة عدم الانحياز، فإن علاقات ناصر نهرو قد أحدثت نقلة نوعية تمثلت في صنع طائرة مشتركة، كان المصريون يصنعون فيها الموتور، بينما يكتفي الهنود بجسم الطائرة الخارجي، ولننظر الآن أين هم وأين نحن؟

إن الكثيرين يتحمسون خصوصاً من دعاة التيار الإسلامي للتجربة التركية، وهي أبعد ما تكون عن الواقع المصري إذا تأملنا طبيعة الاشتباك بين الدين والسياسة في مصر مقارنةً بدولة إسلامية علمانية، إذا جاز التعبير وهي جمهورية أتاتورك، بل ربما تكون التجربة الماليزية أقرب إلينا أحياناً من التركية، ولكن يبقي النموذج الهندي هو الأكثر نجاحاً في عالم اليوم لدولة تشترك معنا في كثير من المشكلات مثل الفقر والأمية والطائفية وثقل الموروث الحضاري، وتراكم التقاليد وغرابة العادات، فهذه كلها قواسم مشتركة بين الشعبين المصري والهندي، وإن كنت أعترف بأن المصريين أكثر تجانساً وانسجاماً بحكم انصهارهم السكاني وتاريخهم الثقافي . والآن دعنا نقول لماذا يبقى الحلم الهندي طيفاً يراودني ويعتادني حيناً فحيناً؟ فلنتأمل النقاط الآتية:

* أولاً: إن الهند التي أصبحت دولة نووية ودولة فضاء ودولة صناعية متقدمة ودولة اكتفاء ذاتي في الحبوب الغذائية لأكثر من مليار ومئتي مليون نسمة، حتى أصبح يجري تصنيفها بأن لديها رابع اقتصاد في العالم، إن هذه الدولة الضخمة لم تخترع العجلة من جديد، ولكنها ألزمت ذاتها بسياسات واضحة وخطط مدروسة وبرامج محددة، ومضت في طريقها بكل جدية لا تحيد عن الطريق ولا تضل السبيل، فلم تستسهل سياسة الانفتاح الاستهلاكي، ولم ترفع الأسوار الحمائية عن صناعتها الجديدة، ولم تندفع وراء الموجات الإعلانية للسلع الخارجية، بل حافظت دائماً على روح الهند وشخصيتها في ما تزرع وما تصنع، بل وفي فنونها وآدابها، حيث لم تقبل الذوبان في غيرها، وقبل الهنود طواعية أن يعيشوا في ظروف ليس فيها رفاهية الحياة ولا ترف المعيشة، ولكن فيها حداً أدنى من القبول الطوعي لدى الأغنياء والفقراء على السواء .

ثانياً: تمتعت الهند بأكبر ديمقراطية في العالم المعاصر، إذ يخرج مئات الملايين للتصويت في الانتخابات البرلمانية على امتداد شهور ثلاثة في ظل ديمقراطية راسخة رغم الفقر وشيوع الأمية وتخلف التقاليد لكي يعطوا أصواتهم لمن يستحق . إنه الشعب الهندي الذي أسقط رئيسة الوزراء أنديرا غاندي في دائرتها ثم أعادها الى موقعها بعد ذلك بعامين، لكي تتقدم الصفوف مرة أخرى بعد أن أصلحت أخطاءها وأدركت أسباب رفض الناخبين لها، وهي الديمقراطية الهندية التي أتت برؤساء ثلاثة من الأقلية المسلمة التي تمثل 10 % من السكان فجاء ذاكر حسين وفخر الدين علي أحمد وأبو بكر عبد الكلام، بل الأخطر من ذلك، أنها الديمقراطية الرشيدة للدولة العصرية المتفتحة التي جاءت إلى المنصب الأول في الدولة في ظل نظام برلماني برئيس وزراء من أقلية لا تتجاوز 2%، فقد سعى الهنود إلى عبقرية اقتصادية من طائفة السيخ لدفع الاقتصاد الهندي في ظل ظروف صعبة ولم يقفوا أمام عقبة الاختلاف في الدين، فالهنود سواء، والفيصل هو مبدأ المواطنة الذي يعني المساواة في المراكز القانونية والحقوق السياسية بين المختلفين ديناً وجنساً وثروة وعرقاً .

ثالثاً: إن الهند هي متحف الزمان والمكان وهي بلد المتناقضات، فيها الغنى الفاحش كما فيها الفقر المدقع، فيها التعايش المشترك وفيها الفتن الطائفية، حيث تشعر الأغلبية الهندوسية بنوع من الحساسية إزاء التحول التاريخي الذي جاء مع حكم المغول المسلمين حتى أصبحت معظم آثار الهند الباقية هي آثار إسلامية سواء كان ذلك في أغرا أوجيبور أوحيدر أباد أو حتى كشمير، لذلك يوجد لدى الأغلبية توتر تاريخي قد لا يكون قائماً في بلد مثل مصر حيث لا يوجد سبب تاريخي للأحداث الطائفية، ولكنها فقط موجات من التعصب والتشدد وضيق الأفق والعجز عن فهم الآخر .

رابعاً: ليس لدينا في مصر طبقة المهراجات ولا طبقة المنبوذين، وإن كان لدينا صراع طبقي مكتوم وصراع أجيال صاخب، وما بين الاثنين تدق نواقيس الخطر ويطل العنف على المشهد المصري بعد ثورة 25 يناير ،2011 ونحن حين نفكر في تاريخ الدولة الهندية فإننا نضع في الاعتبار أن الهند بلد يسعى إلى التعاون مع غيره ويفتح أبواب مؤسساته الأكاديمية للآخرين دون تفرقة، ويكفي أن نتذكر أن الجامعة الملية الإسلامية في الهند تقبل المسلمين والهندوس وجميع الطوائف الأخرى، فالشروط علمية أكاديمية وليست دينية تحكمية .

خامساً: أظن أن النموذج الهندي قابل للتطبيق في مصر، بشرط أن يكون لدينا نظام حزبي قوي وإيمان بالديمقراطية الحقيقية وتمرّسٌ بأساليبها، وإحساس قدري كذلك الذي ينتاب الهنود فيرفع عنهم الشعور بالظلم نتيجة الإيمان بنظرية تناسخ الأرواح وتبادل الأدوار في الحياة الثانية بين الإنسان والحيوان وبين الفقراء والأغنياء . ولقد آمن المصري القديم بشيء من ذلك ولكنه اتجه إلى التوحيد سابقاً البشرية في الوصول إلى تلك الحقيقة . ويكفي أن نتأمل أحد شوارع العاصمة الهندية لنرى الأبقار وقد سدت الطريق أحياناً، إذ إن لذلك الحيوان قداسة لا تُمَس حتى ولو شاع سوء التغذية وانتشرت الأوبئة بين الهنود، إلا أن البقرة في الذاكرة الدينية الهندية هي التي أرضعت إله الهنود، لذلك فإن الطواف بالتجربة الهندية العظيمة التي حاول عبد الناصر استلهامها أثناء نزهة نيلية مع جواهر لال نهرو بعدما أسس الأخير المجلس الأعلى للتخطيط، ليصبح هو رجل الهند القوي وابنها البار الذي حمل على كاهله استشراف المستقبل، وتشكيل رؤية شاملة لدولة كبرى أتطلع لوطني أن يمضي على طريقها نحو قيام دولة ديمقراطية عصرية حديثة . . فهل أحلم؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"