الديمقراطية الجيدة تحتوي على آليات لمحاربة الفساد

04:23 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة*

لا شك في أن الديمقراطية هي النظام السياسي الأفضل في العالم. يسمح للمواطن بالتصرف بحرية في العمل والإنتاج والاستهلاك، كما في القيام بواجباته السياسية والاجتماعية والإنسانية بأفضل طريقة ممكنة. الديمقراطية من دون ضوابط تنتج فساداً وسوء توزيع في الدخل، كما تشير إليه كل التجارب القائمة عالمياً. الديمقراطية من دون ضوابط تنتج أزمات، وفوضى، وغضباً شعبياً، كما دلت عليه التجارب الأوروبية مؤخراً، والتجارب الأخرى الناشئة سابقاً. الديمقراطية من دون أسواق تنافسية حرة لا تعطي نتائج فضلى، إذ إن الحرية متكاملة ولا تجزأ. الديمقراطية الجيدة تحتوي داخلها على آليات لمحاربة الفساد والفاسدين. ليس هنالك ديمقراطية مثالية إنما نظام يبنى على القوانين العادلة العصرية ضمن مؤسسات تعتمد على التأييد الشعبي، ونابعة من الثقافات، والتقاليد والتاريخ.
لا شك في أن السياسة هي من أقدم المهن لكن ممارستها لم تكن دائماً فضلى، بل استغلت في العديد من الأحيان بساطة الشعوب، وربما ثقتهم، فلم تعطهم النتائج الفضلى. واختارت الشعوب أحياناً قيادات سياسية أعطتها آمالاً مغلوطة، بل غشّتها، وبالغت في إعطائها وعوداً كاذبة وغير واقعية. فالشعوب تختار أحياناً عبر العاطفة وليس المنطق، تماماً كما يشتري المستثمر أحياناً أسهماً في شركات بالغت إداراتها في إعطاء أرقام متفائلة عن حسن، أو سوء قصد. فقد اختار الأمريكيون مثلاً «دونالد ترامب» رئيساً ليعيد القوة إلى أمريكا التي لم تفقدها أصلاً. انتخب لأسباب عاطفية، أي ربما انتقاماً من نتائج اقتصادية واجتماعية لم تعجب قسماً من المواطنين، علماً بأنه خسر الصوت الشعبي بنحو 3 ملايين شخص. المواطن كما المستثمر يخطئان أحياناً عندما يصدّقان ما يعرض عليهما من دون أن يقوما بتدقيق البرامج، والأرقام، والأهداف، والتوقعات. وتشير التجارب إلى أن الشعوب تختار عموماً الأقوى وليس الأكفأ، والأصدق، والأفضل، لأن اللعب على المشاعر ليس من اختصاص أصحاب السيرة الحسنة الممارسة عبر سنوات من الجهد، والتعب، والنضال. فانتخاب الشعارات جيد، لكنه لا يؤدي إلى النتائج الفضلى على الأرض.
قال الجنرال ديجول إن الإمبراطوريات لا تنبع من الممارسات الفاضلة الخيرة فقط، إذ لا بد من وجود ممارسات غير مرغوب فيها تصل إلى الأهداف المطلوبة. هل الأهداف الخيرة تبرر اعتماد الوسائل السيئة؟ طبعاً لا، في النظريات، لأن الأهداف الجيدة لا بد أن ترتكز على وسائل فاضلة، وإلا لن تعطي نتائج فضلى على المدى البعيد. المشاريع الاستثمارية الجيدة لا يمكن أن تبنى على أموال مسروقة، أو نابعة من الأسواق السوداء، وإلا أضاعت جدواها، وفقدت تأثيرها الإيجابي قبل أن تبدأ بخدمة المجتمع. يجب أن تكون لنا شكوك تجاه من يسوّق أفكاراً جيدة عبر طرق فاسدة ملتوية. الشكوك تكون تجاه هذه الأفكار التي تظهر جيدة لكنها حتماً هي غير ذلك في الواقع والحقيقة.
للفساد معان تختلف من مجتمع إلى آخر. في بعض المجتمعات، الفساد «شطارة»، و«قوة»، و«هيبة»، وهذا مُضر، بل مهين لتلك المجتمعات. الفساد يجب أن يكون عيباً يسبب محاسبة الفاسدين ضمن القوانين المعتمدة. هنالك أمور تعتبر فساداً في مجتمعات ومقبولة في أخرى، لذا يجب أن يكون الفساد موصوفاً بشكل دقيق في كل المجتمعات والدول. وتجري منظمة الشفافية الدولية تقييماً لكل الدول حول فسادها وتنشره سنوياً ما يعطي فكرة عن عمق الفساد وانتشاره في كل الدول. كذلك الأمر بالنسبة للديمقراطية، حيث لها أشكالها في كل الدول، من برلمانية إلى رئاسية، وشعبية، وغيرها، معتمدة على مؤسسات وقوانين تعكس الثقافات والتاريخ والتقاليد. هنالك تأثير للأديان في الدساتير والقوانين الأساسية، وبالتالي تعتمد الدساتير على المفاهيم الدينية الإسلامية، أو المسيحية، أو غيرها من نواحي فصل الدين عن الدولة، وقوانين العقاب والحقوق المختلفة، كالإرث والبيع والشراء والعقود عموماً.
ولا شك في أن الجشع هو شر كبير، بل أسواء الصفات، ويحرك مشاعر الإنسان سلباً نحو المزيد من المادة مهما كانت التكلفة والشروط. هنالك من يبيع مثلا 300 بطاقة لحضور حفلة تحتوي على 100 مقعد. هذا مثال بسيط لتصرفات يمكن أن تكون أخطر، مثلاً في قطاعي الصحة والتعليم. من يحاسب هؤلاء المخلين بالأنظمة والأخلاق، وما هي قساوة العقوبات التي تردع من يفكر في القيام بهذه الأعمال؟ من يقوم بأعمال التجسس عبر الهاتف، أو التنصت في المؤتمرات هو فاسد خطر، وإن لم يكن وراءه ابتزاز مالي، بل سياسي فقط. فضيحة «ووترجيت» في واشنطن أطاحت الرئيس نيكسون في السبعينات، وهنالك فضائح مختلفة كادت تطيح الرئيس كلينتون. فكرة المحاسبة السياسية ضد الفساد أصبحت أقوى اليوم كما تشير إليه إقالة الرئيس موغجابي مؤخراً في زيمبابوي، وكما تشير إليه حالات عدة مماثلة في كل القارات.
كيف يؤثر الفساد في الديمقراطية؟ المال هو عصب الانتخابات في الدول الديمقراطية، وبالتالي مصادر المال مهمة جداً، أي يجب أن تكون شرعية وإلا ضربت النظام بأسره. فالانتخابات تكون أسهل لمن له ثروة يستعملها لتمويل الإنفاق، وتسيير الحملة ودفع مصاريف المندوبين والعاملين. لا ندخل هنا عمليات شراء الأصوات في الإنفاق، إذ تبقى غير شرعية في كل القوانين والمجتمعات لكنها ما زالت تحصل في الدول النامية والناشئة خصوصاً. هنالك شراء غير مباشر للأصوات عبر تنفيذ مشاريع معينة في مناطق مدروسة تؤثر في توجيه الأصوات نحو مرشحين معينين، أو أحزاب، أو تيارات مفضلة. ليست هنالك مجتمعات مثالية إنما هنالك مجتمعات تحترم الإنسان أكثر بكثير من غيرها.
أولاً: يبنى الفساد على قوانين سيئة وممارسات أسواء تنتج سوء عدالة. مثلاً في الولايات المتحدة يشكل أصحاب الملايين 3% من الشعب، و15% من المقترعين ما يدفع الدولة ومؤسساتها أكثر نحو تأمين مصالح الأغنياء. 1% من الأمريكيين يمولون ثلثا تكاليف الحملات الانتخابية، ما يفسر تأثير قوى المال عفي المنتخبين وخطابهم على جميع المستويات. هذا النوع من «الفساد» هو شرعي لكنه يؤثر في واقع ومستقبل البلاد، وبالتالي معالجته ضرورية لإدخال الطبقات الوسطى، وما دون، أكثر إلى الواقع الانتخابي.
ثانياً: من المرشحين ال21 في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، 18 كانوا من أصحاب الملايين، أو ما يفوق ذلك. أكثريتهم لم تستعمل الثروة الشخصية لكن شبكات العلاقات التمويلية التي بحوزتهم تقوم بذلك، وتوفر عليهم الكثير من الوقت والمال، مندون وضع شروط علنية بل ضمنية. التعديل الضرائبي الأخير يؤكد ذلك، ويعطي أمثال الرئيس ترامب أفضليات كبرى تزيد ثرواتهم، وتعزز دخلهم.
ثالثاً: السياسيون يغتنون في معظم الدول بطرق شرعية وغير شرعية. فالطرق غير الشرعية معروفة من سرقة أموال عامة، إلى ابتزاز المتمولين، وأخذ حصة من المشاريع العامة، وغيرها. وهنالك طرق شرعية تسمح لهم بالاغتناء عبر تأسيس الشركات والقيام بالمحاضرات، خاصة عندما يخرجون من الحكم. وتشير المعلومات إلى أن الرئيس السابق أوباما حصل على 400 ألف يورو مقابل إلقاء محاضرة مهمة في باريس منذ أشهر. ويقوم الرئيس كلينتون وزوجته بهذه الأعمال منذ سنوات، وقد حققوا ثروة مشتركة كبرى تقدر ب110 ملايين دولار، وهم القادمون من عائلات غير ميسورة. طبعاً يجب تشجيع السياسيين على المشاركة في نقل تجاربهم إلى الأجيال الجديدة، لكن ضمن تكلفة مقبولة، وهذا يبقى واجباً عليهم.
*باحث اقتصادي لبناني
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"