لماذا يتعثر النمو؟

02:41 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. لويس حبيقة*

انخفاض الإنتاجية الاقتصادية ليس بسبب نوعية التكنولوجيا إنما بسبب استيعاب المجتمعات كلياً للتطور التكنولوجي الكبير القديم، ولأن الإضافات ليست بالأهمية نفسها.
اعتاد العالم منذ منتصف القرن الماضي على نسب نمو قوية حتى في الدول الصناعية. نمت الدول الناشئة كما النامية أيضاً بنسب تغيب اليوم لأسباب متعددة. هل كانت الفترة السابقة استثنائية؟
يقول الاقتصادي «زفي غريليكيس» إن النمو الماضي القوي خاصة في فترتي الخمسينات والستينات انتهى إلى غير رجعة، ويجب أن نكتفي بالنسب المعتدلة والمنخفضة. في الحقيقة يمكن تقسيم فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى مرحلتين أولاهما ما بين 1945 و1973 وهي مرحلة الازدهار والنمو المرتفع، وثانيهما فترة 1973 حتى اليوم عملياً وهي فترة النمو العادي الذي يحافظ على البحبوحة الحالية مع الأمل الضعيف في تحسن أوضاع المواطن العادي أي مواطن الطبقة الوسطى وما دون. تغيرات كبرى أساسية تحققت خلال عقود قليلة من الزمن.
أولاً: مرحلة 1945 - 1973 حيث عرف الاقتصاد العالمي نمواً منقطع النظير. طبعاً النمو يكون دائماً قوياً بعد الحروب والدمار حيث الحاجات تكون كبيرة وبالتالي أينما ننفق نحقق المزيد من الغنى. في لبنان شهدنا مثلاً بعد الحرب الأهلية وفي بداية التسعينات نمواً كبيراً لسنوات متتابعة بنيت خلالها البنية التحتية والاقتصاد بشكل عام وأوسع.
ثانياً: منذ سنة 1973، تغيرت الأوضاع ليس بسبب الحرب الباردة والحروب الإقليمية والأزمة النفطية وارتفاع أسعار النفط وتكلفة الإنتاج كما يقول البعض ومنهم «مارك ليفينسون» في كتابه «أوقات فريدة»، إنما أيضاً بسبب عوامل عدة تغيرت تدريجياً منذ السبعينات وما زالت تتحرك حتى اليوم. تبعاً لجميع هذه العوامل، تحولت البحبوحة إلى قلق وخوف وعدم اطمئنان وثقة بالنسبة للمستقبل وتجاه السياسيين.
ما الذي حصل وما هي أسباب هذا التحول الكبير في الاقتصاد والمجتمعات؟
أولاً: لا شك في أن أسعار النفط كانت متدنية جداً قبل 1973 وتم رفعها بسرعة لمصلحة الدول المنتجة التي لها الحق في الاستفادة من ثرواتها الطبيعية كما يحق لكل دول العالم أن تستفيد من مواردها الأولية وسلعها الزراعية والصناعية والمعدنية كما الغذائية. الاستعمار المتواصل في المنطقة العربية بقي اقتصادياً حتى فترة السبعينات حيث أعطيت فرص للدول المنتجة لتحقيق بعض العدالة في العلاقات الاقتصادية الدولية. خسارة حرب 1967 وانتصار 1973 لم يؤثرا فقط اقتصادياً وسياسياً، بل التأثير الأكبر كان نفسياً ومعنوياً وهنا تكمن الشجاعة في تحديد الإنتاج وبالتالي رفع الأسعار.
ثانياً: منذ انتهاء العمل في اتفاقية «بريتون وودز» من قبل الرئيس نيكسون في سنة 1971، أصبحت أسعار الصرف العالمية حرة، وبالتالي زادت مخاطر الأسواق والاستثمارات. بما أن ارتفاع المخاطر يتزامن عموماً مع ارتفاع العائد، إلا أن هذه الأجواء تفرض على قطاع الأعمال التردد في اختيار استثماراته وبالتالي يتعثر النمو وترتفع البطالة.
ثالثاً: انخفاض الاستهلاك لأن الدخل الفردي لم يتحسن كما تعود عليه العالم ولأن التضخم بدأ يظهر بفضل السياسات النقدية والمالية المتهورة وبالتالي تدنى الدخل الحقيقي في بعض الدول المستهلكة للنفط. تردد المواطنون في الإنفاق وبالتالي تعثر العرض وتقلبت الأسواق كما لم يحصل من قبل. بالرغم من أن فجوة الدخل بين الدول خفت، إلا أن الفجوة داخل كل دولة ارتفعت إلى حدود خطيرة تهدد معها الأمن الاجتماعي.
رابعاً: انخفاض نسب النمو السكاني بسبب تحسن الصحة وانخفاض الإنجاب وطول العمر المرتقب. تكمن أهمية هذا العامل في التغير الكبير للهيكليات السكانية حيث ارتفعت نسبة المسنين في المجتمعات وانخفضت نسبة الشباب المنتجين. يتوقع أن ترتفع نسبة المسنين أي فوق ال 60 سنة في العالم الغربي من 19% في سنة 1996 إلى 31% في سنة 2030، مما يرفع من تكلفة ضمانات الشيخوخة والضمانات الاجتماعية عموماً.
خامساً: انخفاض الإنتاجية الاقتصادية ليس بسبب نوعية التكنولوجيا إنما بسبب استيعاب المجتمعات كلياً للتطور التكنولوجي الكبير القديم، ولأن الإضافات ليست بالأهمية نفسها. بتعبير آخر، تأثير الثورة الصناعية القديمة على الاقتصاد العالمي كان أكبر بكثير من تأثير الإنترنت والخليوي وغيرها بالرغم من أهميتها. ارتفعت الإنتاجية مؤخراً، لكن حتماً ليس بالنسب التي ارتفعت معها في بداية القرن الماضي وحتى منتصفه.
سادساً: هنالك تغيرات كبيرة في المجتمعات أي في العقلية والممارسة ليس فقط في العلاقات الاجتماعية وإنما في العلاقات بين أرباب العمل والعمال، بين الريف والمدن وغيرها. هنالك وعي تجاه المخاطر البيئية، وما هي كارثة «هارفي» في هيوستن وغيرها إلا لتنبه العالم أجمع إلى مخاطر السخونة والتغيرات المناخية الخطرة وضرورة المعالجة والوقاية الجدية.
ما يميز الفترة الحالية خاصة هو غياب التفاؤل بالمستقبل بالرغم من أن مستوى الدخل الفردي تحسن كثيراً مقارنة بالعقود الماضية. غياب التفاؤل مضر وينعكس على الخيارات السياسية والاقتصادية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"