متى أوان الاستراتيجية الثقافية العربية؟

03:24 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

منذ أربعة عقود تقريباً، وضعت المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة (أليكسو) استراتيجية شاملة تقدمية للثقافة العربية الواحدة. وكان وراء ذلك الحماس الملتزم بالهوية العروبية المشتركة، وكل تجلّياتها الثقافية، العديد من وزراء التربية، وكبار موظفي الجامعة العربية، وأليكسو المثقفين العضويين الملتزمين بوحدة أمتهم العربية، ووطنهم العربي الكبير.
لكن حكومات تلك الفترة، المنشغلة بخلافات وصراعات السياسة وإيديولوجياتها، وببناء قبضات الأمن الحديدية، لم تُعر تلك الاستراتيجية الاهتمام المطلوب، فكان أن دخلت الأدراج، وطواها النّسيان، كما طوى غيرها من الاستراتيجيات الكثيرة الأخرى في شتّى الحقول.
مرَّت تقريباً، ثلاثون سنة، قبل أن ينتبه رؤساء الدول العربية لأهمية الموضوع، ويقرّروا في اجتماع إحدى قممهم سنة 2010 ضرورة عقد قمة ثقافية عربية لصوغ رؤية ثقافية مستقبلية للدول العربية، وبطلب من «أليكسو» ودائرة الثقافة في الجامعة العربية، بالتعاون مع مؤسسة الفكر العربي، ومجموعة منتقاة من المثقفين العرب، وُضعت استراتيجية ثقافية كي تقدم إلى اجتماع القمة الثقافية في المستقبل القريب.
لكن ما إن بدأت الاجتماعات لوضع ذلك الطلب موضع التنفيذ حتى انفجرت الحراكات الشعبية العربية في العديد من الأقطار العربية سنة 2011، فتوقف تنفيذ المشروع بفعل دخول الأنظمة والمجتمعات العربية في خلافات، وصراعات، وجنون الجحيم الذي نكتوي جميعاً بنيرانه إلى يومنا هذا.
تراجعت أهمية الثقافة أمام الصعود المذهل للسياسة العبثية اللامسؤولة، وللأمن العنفي غير المنضبط، وللإرهاب الجهادي التكفيري المدّعي صفة الإسلام زوراً، وبهتاناً، وتطاولاً، ولاستباحة وطن العرب من قبل الاستعمار والصهيونية واستخباراتهما، وللخلافات الطائفية، والعنصرية، والقبلية الطفولية.
ومع تراجع الثقافة انزوى المثقفون، إمّا في منافي الهجرة، وإمّا في زبونية السياسة، وانتهازياتها، وإمّا في عزلة اليأس والقنوط وتدمير الذات. ولم يبق إلا القليل ممن لا يزالون يقبضون على الجمر بصبر، وإصرار، ومسؤولية.
أمام مشهد محبط كهذا، يجب أن يّطرح سؤالان مفصليان:
* الأول: هل آن الأوان، كجزء من لملمة الحياة العربية المنهكة، للرجوع إلى محاولة وضع تصور لاستراتيجية ثقافية عربية وتقديمها إلى اجتماع قمة للرؤساء العرب في القريب العاجل، فلعلّ ذلك يقنعهم بأن الثقافة يمكن أن تكون أحد مداخل إرجاع العافية للجسد العربي؟
* والثاني: هل حقاً يرجى من أناس ساهم منهم، بقصد أو من دون قصد، في الدمار المادي والمعنوي الذي حل بأرض العرب وبشر العرب، أن ينقذوا الثقافة، بعد أن فرطوا في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع؟
بصراحة، ليس لديّ، شخصياً، إجابات شافية مقنعة لهذين السؤالين اللذين يتحديان العقل، والضمير، والالتزام القومي. غير أن المسؤولية القومية تحتم على (أليكسو) أن تطرح على نفسها السؤال الأول على الأقل، وألا تسمح لنفسها بأن تقف عاجزة أمام ما حلّ من علل وتشوهات بالثقافة العربية الجمعية من جراء جرائم، ومجرمي الخارج، والداخل.
أما الجواب على السؤال الثاني، فليتركوه لمؤسسات المجتمعات العربية المدنية المناضلة، فهي كفيلة وقادرة على أن تتعامل مع الملابسات التي تحيط به، طال الزمن أم قصر، من خلال نضالها السياسي السلمي التراكمي. وتاريخ وتضحيات هذه الأمة عبر العصور شاهداً على ذلك.
نحن الآن أمام ثقافة جمعية يريد لها البعض أن تدخل في صراع عبثي مع الثقافات الفرعية، تمهيداً لإيجاد تمزّقات وتشظيات اجتماعية تقود إلى إضعاف الهوية العروبية الجامعة الممتدة في أعماق الزمن، وعلى امتداد الجغرافيا العربية، أمام ثقافة يراد لها أن تكون في تضاد بليد مع ثقافة العصر، وثقافات الآخرين لتصبح منغلقة على ذاتها، وغارقة في سلفيتها، أمام ثقافة مملوءة بالثنائيات المتصارعة بسبب الخوف من كل تجديد، أمام ثقافة يراد لها أن تكون بعيدة عن المعرفة العلمية والعقلية، ولكن قريبة من سطحية وشعاراتية وهذرية الإعلام المظهري النفعي المفقر للعقل، والروح، أمام ثقافة غير نقدية ولا تجاوزية تجتُّ ذاتها سنة بعد سنة، من قبل مؤسسات تعليم فاشلة مرعوبة. ولذلك تقف حائرة أمام الثقافة العولمية المملوءة بالعلل، والأخطار، من دون قدرة على الصد، أو الحماية النديّة.
من هنا، وخوفاً على التكوينات العقلية الفكرية والشعورية والروحية لشباب وشابات المستقبل العربي، نحتاج للرجوع إلى موضوع الثقافة العربية من جديد، بعد أن فعلت السنون والأحداث بهذه الثقافة، الأمل والنهوض، ما فعلت، ولنبدأ من حيث أجبرتنا الأحداث الكارثية على التوقف.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"