معادلة التطرف والاعتدال في الواقع العربي

04:34 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

يستمد الحديث عن هذه المسألة الحضارية الشائكة المتعلقة بمعادلة التطرف والاعتدال، مشروعيته انطلاقاً مما يحدث من تطورات لافتة في سياق مسار وسيرورة الواقع العربي الراهن، إذ إنه وبموازاة حالات التطرف والهمجية التي تنقلها لنا وسائل الإعلام المختلفة، التي يقترفها بعض الشواذ من المحسوبين على الإسلام والمسلمين، نلاحظ تطوراً كبيراً في الوعي العربي والإسلامي تجاه كل المسائل التي تتصل بالتطرف والغلو، حيث تضاعف المنابر الإعلامية والفكرية والسياسية الداعية إلى الوسطية والاعتدال، والمحذرة في اللحظة نفسها من التأويلات المتهافتة للنصوص الدينية المؤسِسة للعقيدة والمنظمة للحياة السياسية ولشؤون البلاد والعباد.
ويمكن القول إن هناك مستويين لمقاربة تمفصل هذه المعادلة على أرض الواقع العربي، يتعلق المستوى الأول بالجانب السياسي، حيث أدت الاضطرابات التي عرفتها المنطقة العربية منذ نحو عقد من الزمن إلى ازدياد حالات التطرف الناجمة عن تصلب المواقف السياسية والأيديولوجية لمختلف القوى المتصارعة على مستوى الجغرافيا الإقليمية للوطن العربي، وكان للتدخل الأجنبي بقيادة القوى الكبرى الدور الأكبر والأبرز في دفع مختلف الأطراف إلى التطرف، وبخاصة مع بداية أزمات المنطقة التي جعلت بعض القوى المحلية تشعر بأنها باتت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق الانتصار الكاسح والمؤزر على خصومها. بيد أن التدمير الهائل والفوضى العارمة التي حلت بالمنطقة جعلت كل الفرقاء يشعرون بالخطر الوجودي الذي يتهددهم، ودفعتهم مشاهد العنف الأعمى إلى إعادة تقييم مواقفهم على ضوء كل هذه التطورات الكارثية، وذلك ما يجعلنا نلاحظ الآن تراجعاً محسوساً في الخيارات الصفرية والمتطرفة لدى مختلف الأطراف، حيث يجري حراك سياسي كبير من أجل التوصل إلى تفاهمات متعادلة تحفظ ماء الوجه للجميع، وتسهم في حقن دماء الأبرياء، الذين يتعرضون لمخاطر جمة في مختلف ساحات الصراع المفتوحة من العراق إلى سوريا وصولاً إلى ليبيا.
أما المستوى الثاني فيتعلق بالنقاش الفكري الذي بدأ يأخذ أبعاداً أكثر جدية عند مفكري ومنظري مختلف التوجهات، بعد أن اقتنع الكثير من الخصوم بضرورة الأخذ بالقاعدة التي تؤكد «أن ما لا يدرك كله لا يترك جله»، وأن التطرف لا يمكنه أن ينتج إلا تطرفاً مضاداً مرادفاً له في القوة ومعاكساً له في الاتجاه، وذلك من منطلق أن قواعد الاجتماع البشري والإنساني تفرض على الجميع التخلي عن الخيارات الجذرية أو الراديكالية. ونستطيع أن نخلص بالتالي إلى أن المجتمعات، من حيث تركيبتها الهرمية وقواعدها الحضارية والأخلاقية، تتيح لكل التوجهات الفكرية المتعارضة إمكانية التعبير عن رأيها وموقفها، ولكن دون تطرف أو إقصاء لباقي المواقف المخالفة، التي تمتلك بدورها الحق في أن تقدم ما تراه مناسباً للاجتماع البشري المشترك في هذه الرقعة الجغرافية من العالم، التي عُرفت عبر كل تاريخها بقدرتها على توظيف الاختلاف والتنوع بشكل إبداعي، وفقاً لصور ومشاهد معبِرة سمحت بإعطاء دروس بليغة ومؤثرة في ثقافة التسامح والتعايش السلمي خلال القرون الماضية من تاريخ البشرية.
ونعتقد في هذه العجالة أن قسماً كبيراً من شحنة التطرف التي تعرفها المنطقة العربية تأتي من الخلط الإرادي الذي يتعمد الوقوع فيه أصحاب النفوس المريضة التي ضاق أفقها وفسدت نواياها وساءت طويتها، حيث يعمل مثل هؤلاء على ربط صراعات آنية تتصل بخلافات حول مكاسب سياسية، بأبعاد وجودية وفكرية وحتى عقائدية جرى حسمها أو تجاوزها منذ قرون عديدة، وكان من نتائجها وقوع فتن عظيمة ومفاسد كبرى داخل محيطنا الثقافي والحضاري المتنوع الأصول والمشارب. وفضلاً عن هذا الخلط المرتبط بأهداف مشبوهة، يجري الآن تدليس كبير للحقائق، وتشويه خطر للمعطيات، وبخاصة عندما يعمل بعضهم على خلط جزء يسير من الحقيقة والصواب بركام كبير من الباطل، فيختلط الأمر على الناس، ولا يستطيعون التمييز بين الحق والباطل، ويلجأ بعضهم إلى التضحية بالغالي والنفيس في سبيل الدفاع عن باطل صريح، يرتدي لباس الحق زوراً وبهتاناً.
صفوة القول في ما أردنا الذهاب إليه، وما سعينا إلى إبراز بعض جوانبه، هو أن معادلة التطرف والاعتدال، باتت تتجه أكثر فأكثر نحو تثبيت ودعم خيار الاعتدال، بعد أن توصلت الأطراف العربية والأجنبية إلى الاقتناع بأن التطرف ليس خياراً للحياة أو «جوهراً سامياً» يمكن اعتماده من أجل بناء المشاريع السياسية أو لتثوير وتغيير المجتمعات نحو الأفضل، بقدر ما هو بركان للفناء والموت يجذب نحو حممه الحارقة والمدمرة كل الأطراف داخل الوطن العربي وخارجه.
ولا ريب لدينا في النهاية، أن الوطن العربي الذي نعتز بالانتماء إليه، أضاع القسم الأكبر من وحدته واستقراره، عندما فرط إلى حد كبير في مبادئ الأمن القومي المشترك، وعندما صار كل قطر يراهن على بناء منظومته الأمنية الخاصة بعيداً عن متطلبات الأمن الجماعي لكل دول المنطقة، الأمر الذي أسهم في إطلاق سراح شياطين التاريخ وتخليصها من أصفادها، وجعلها تدخلنا في حروب طائفية شديدة التطرف والقسوة. كما أدى إلى تحول قسم من الخيارات القطرية الضيِقة إلى خيارات مناطقية تهدد الوحدة الترابية لمعظم الدول، وعلينا ألا نضيع فرصة انتصار الاعتدال في هذه اللحظة التاريخية الفارقة، حتى لا يكون الجيل الذي ننتمي إليه، سبباً في خراب الأوطان وضياعها، لأن التطرف يستثمر في الإقصاء والكراهية، ويسعى إلى تفكيك المجتمعات وضياع الدول.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"