من دروس معركة عرسال

05:32 صباحا
قراءة 4 دقائق
د .غسان العزي
لم يكن ما حصل في عرسال مفاجئاً لأحد . فهذه البلدة اللبنانية مع جرودها الوعرة المترامية الأطراف على الحدود اللبنانية السورية دخلت في الحرب السورية منذ بداياتها . وساهم إهمال الدولة اللبنانية لها في تحولها إلى رهان استراتيجي في الحرب المذكورة لا سيما بعد سقوط القلمون السورية في أيدي النظام . فقد احتضنت هذه البلدة الفقيرة أكثر من مئة وعشرين ألف نازح سوري، ما يوازي ثلاثة أضعاف عدد سكانها، ومن هؤلاء النازحين خرج عدد كبير من المسلحين الذين اختطفوا البلدة وتحصنوا فيها بعد أن فاجأوا الجيش اللبناني بالهجوم عليه .
هذا الهجوم كان مدبراً ومخططاً له منذ وقت طويل، ولم يكن رداً على توقيف الجيش لعماد أحمد جمعة، أحد قادة المسلحين بدليل "السرعة التي تحرك بها المسلحون وطوقوا بها المراكز العسكرية والانقضاض على المواقع واختطاف عسكريين"، بحسب إعلان قائد الجيش اللبناني العماد قهوجي . وقد اعترف جمعة بوجود خطة لإقامة "إمارة إسلامية" في عرسال مرشحة للتوسع .
خطورة هذا الهجوم "الداعشي" ليست عسكرية فحسب بل تكمن في الفتنة المذهبية التي كان يمكن أن يتسبب بها نظراً لحساسية الوضع العرسالي وللتوترات المذهبية المتنقلة في لبنان في غياب لدولة تعاني ما تعانيه من ضعف وعجز عن انتخاب رئيس للجمهورية منذ ثمانين يوماً .
ففي بداية المعركة العرسالية صدرت توقعات صحفية بأن المعركة ستكون طويلة وقد تمتد الى مناطق أخرى بدليل الكمين الذي نفذه مسلحون ملثمون للجيش في طرابلس والتوتر الذي عاد إلى هذه المدينة التي، كما عرسال، دخلت في الأزمة السورية منذ بدايتها . وتعليقاً على الهجوم "الداعشي" صدرت تصريحات من نواب طرابلسيين لم تندد بالإرهاب التكفيري بقدر اتهامها لحزب الله بالتسبب بما جرى بسبب تدخله في الحرب السورية . وهذا ما أكده بيان قوى 14 آذار الذي وإن أعلن دعمه للقوى الأمنية إلا أنه شدد على أن مشاركة حزب الله في سوريا إلى جانب النظام هي التي دفعت المسلحين إلى الرد عليه في لبنان .
كان من الممكن لهذا الجدال أن يوحي بأن اللبنانيين منقسمون بين مؤيد "لداعش" ومعارض لها لولا مسارعة الرئيس سعد الحريري من مكان إقامته في جدة، إلى إعلان الدعم الكامل وغير المشروط للجيش اللبناني في مواجهة التكفيريين القتلة . وبعدها بساعات كشف الحريري عن مكرمة سعودية بقيمة مليار دولار لدعم هذا الجيش . هذا الموقف السعودي يعني بجلاء أن الرياض تقف وبالأفعال وليس الأقوال ضد التمدد "الداعشي" في لبنان، وأن المظلة الإقليمية الحامية للبنان لاتزال قائمة . أكثر من ذلك فقد اجتمعت الحكومة اللبنانية فوراً، وهي التي كان كل اجتماع لها لايتم إلا بعد مفاوضات طويلة وعسيرة بين أطرافها، لتعلن وقوف الجميع صفاً واحداً ويداً واحدة خلف الجيش في معركته ضد الإرهاب .
وقد ساهمت أقوال ادوارد سنودين التي نقلها موقع "ذي انترسبت" وما نقل عن كتاب هيلاري كلينتون الموسوم "خيارات صعبة" (حول دور المخابرات الأمريكية والبريطانية و"الإسرائيلية" في تشكيل تنظيم "داعش" والدور الذي يلعبه . .)، في تكوين قناعة عامة في لبنان بأن "غزوة عرسال" الداعشية ليست إلا جزءاً من مؤامرة كبرى تحاك للبنان والمنطقة . وهذه القناعة غطت كثيراً على سجال داخلي كان سيحرم القوات المسلحة اللبنانية من غطاء شعبي وسياسي لا بد منه في حربها على الإرهاب . هذا السجال من المؤكد أنه سيعود إلى السطح وستكون هناك مطالبة بتوسيع دائرة القرار ،1701 الصادر عن مجلس الأمن في العام ،2006 ليشمل الحدود بين لبنان وسوريا بهدف منع تنقل المسلحين من الجانبين . وعلى الأرجح أن تثار قضية تنظيم وجود النازحين السوريين الذين يتلطى خلفهم عدد كبير من المسلحين الموالين والمعارضين لنظام الأسد على السواء، والذين لا قدرة للدولة اللبنانية على الاستمرار في تحمل الأعباء الناجمة عن وضع ليس بالطبيعي .
الدرس الأهم الذي كشفت عنه معركة عرسال هو غياب بيئة لبنانية حاضنة للتكفيريين . فحتى عرسال نفسها برهنت على أنها بيئة حاضنة وداعمة للمعارضة السورية وللثورة ولكن ليس للتكفيريين بدليل الخلافات التي نشبت بين هؤلاء حول أفق المعركة وتحولهم إلى قوة احتلال للبلدة التي كشفت، في سرعة قياسية، عن نقمة شعبية عليهم، فلم يعودوا "كالسمكة في الماء" بحسب تعبير ماوتسي تونغ الشهير .
واليوم ترتفع في مناطق لبنانية كثيرة، من كل الانتماءات السياسية والمذهبية، صور قائد الجيش وتتنوع مظاهر الاحتفاء بالجيش والقوى الأمنية . وفي مناطق معينة وعلى صفحات التواصل الاجتماعي هناك حملات تمتدح العميد شامل روكز صهر العماد ميشال عون وهو مرشح لخلافة قهوجي . فهل تنتهي معركة عرسال بتسوية تأتي بروكز قائداً للجيش إرضاء لعون وبقهوجي رئيساً للجمهورية؟ لقد ساهمت حرب نهر البارد في العام ،2007 ضد عصابة شاكر العبسي في الإتيان بقائد الجيش ميشال سليمان رئيساً للجمهورية تفادياً لفراغ قد يطول . واليوم، رغم اختلاف الظروف والتفاصيل، فهل تفتح معركة عرسال الطريق إلى قصر بعبدا أمام الجنرال قهوجي، الذي يشترك مع نظيره سليمان في الكثير من المواصفات والمواقف والظروف المحلية والإقليمية، تفادياً لفراغ رئاسي مرشح للدوام؟
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"