نحو القليل من الجدية والنضج

05:34 صباحا
قراءة 4 دقائق

لم يكن من قبيل المصادفة إعلان أولمرت عن تأهب جيش الاحتلال لاجتياح جديد وكبير لقطاع غزة، بعد يومين من إعلان الرئيس محمود عباس التوجه لحوار وطني شامل ينهي حال الانقسام، وبعد يوم واحد من عودة أولمرت من زيارته لواشنطن.

في الجانب الفلسطيني، هناك ارتباك شبه دائم في تنظيم الأولويات المتزاحمة، التي تتطلب الالتفات إلى أكثر من أولوية واحدة في وقت واحد، وليس العمل على ترتيبها بصورة متسلسلة. على سبيل المثال، فإن تهديدات أولمرت وهي ليست جديدة تماماً، تقتضي السعي إلى حماية أكثر من مليون ونصف مليون نسمة من أبناء غزة، وفي الوقت نفسه المضي على طريق استعادة الوحدة الوطنية، وبالتواقت أيضاً مع شن حملة سياسية للكشف عن رفض حكومة الاحتلال إبرام هدنة متبادلة ومتزامنة، رغم الجهود المصرية الحثيثة في هذا الاتجاه والتي استهلكت الكثير من الجهد ومن الوقت.

تتحدث القيادات الفلسطينية عن المأسسة وعن الصمود في وجه الاحتلال، وعن الربط بين مختلف أشكال العمل الوطني، غير أن واقع الحال يظهر مدى تواضع الحصاد بل هزاله. يعرف العالم أن هناك صواريخ تطلق من غزة، لكنه بالكاد يعرف أن جهود الهدنة تعود الى عامين، بل لما هو أبعد، وأن تلك الجهود اصطدمت دائماً برفض حكومة الاحتلال أن تكون طرفاً فيها!

الشعب الذي يعاني الضنك والقهر في غزة، يستبشر بالتوجه لتجديد الوحدة الوطنية بين حماس وفصائل منظمة التحرير، غير أن من حق هذا الشعب على قياداته قبل ذلك أو بموازاته لا فرق، أن يتمتع بالحماية وبالحق في الحياة.

رفضت حماس سابقاً تأمين حماية دولية واعتبرتها وصاية واستعماراً. ولم تسع السلطة في رام الله من جهتها لبلورة الفكرة ووضعها على جدول الأعمال الإقليمية والدولية. في النتيجة يدفع الشعب من اللحم الحي لأبنائه ثمن هذا القصور، حتى أن القتل اليومي لم يعد خبراً في منظور وسائل الإعلام لفرط تكراره وانتظامه. علما أن تل أبيب ترفض من جهتها رفضاً قاطعاً استقدام قوات دولية، وذلك لإدامة استفرادها بالشعب الأعزل، ولإقصاء أي طرف خارجي عن الاهتمام الجدي والملموس بأحوال الرازحين تحت الاحتلال.

الآن، فإن حكومة القتلة في تل أبيب تتحدث باعتبارها قد صبرت طويلاً، ولم يعد هناك من خيار سوى ارتكاب جريمة كبرى. مع أنها لم تتوقف يوماً واحداً عن أعمال القتل وتجريف الأراضي الزراعية وتقويض المشاغل الصغيرة، ورفضت كل عروض الهدنة بعدما كانت تعطي موافقات لفظية عليها.

في الظروف العسيرة التي يعيشها شعب فلسطين، لم تعد كافية إعادة الوحدة الوطنية وتقاسم السلطة بين الفصائل على اختلافها. الأهم من ذلك أن يكون التوحيد منتجاً وفعالاً، يحمي الشعب من العسف والتنكيل، ينقذ الأرض من التهويد والاستيطان، ويزيد من فرص انتزاع الحق بالحرية والاستقلال. الوحدة الوطنية كانت قائمة قبل نحو عام بالصورة التي يتم الحديث الآن عن استعادتها، لكن التحديات الموضوعية والذاتية كانت قائمة آنذاك. وهي ازدادت وتعاظمت خلال عام مضى، وعليه فإن استعادة الوحدة على أهميتها الكبيرة، لا تشكل وحدها حلاً سحرياً وناجزاً كما يزين الأمر ناطقون من فتح أو حماس، على السواء، هذه الأيام.

لقد تم إشغال العرب من مسؤولين ورأي عام، خلال العامين الماضيين بالتقريب بين الفصيلين الكبيرين، بدلاً من حمل العرب على اتباع سياسة دينامية تتلاقى مع سياسة فلسطينية مفترضة ومطلوبة، للضغط على واشنطن لتقصير عمر الاحتلال، وإنجاز سلام يستحق هذه التسمية له، والكف عن إطلاق الوعود الجوفاء من الإدارة الأمريكية، التي تهزأ بعقول العرب والفلسطينيين على حد سواء، وذلك بتسويق مخدر "حل الدولتين" عليهم. وفي المحصلة فإن بوش يأمل في أنه ما أن تنتهي ولايته نهاية العام الجاري، حتى يكون قد تم التوصل إلى تعريف مقبول للدولة الفلسطينية. فيما أصحاب الشأن يبددون الوقت والجهد في التنازع على تقسيم سلطة لا يريدها محمود عباس كما دأب على القول، وتزهد بها حماس كما تنبىء أدبيات عديدة لها على مدى عقد من الزمن.

من الغريب أن يتحدث مسؤولون فلسطينيون أنهم بصدد الإعداد لتحرك عربي (ربما يكون بدأ مع نشر هذه المقالة) لرعاية وضمان اتفاق جديد مزمع. لا يدرك هؤلاء المسؤولون أن العالم العربي بدأ يضيق بحكاية إبريق الزيت هذه، وأن هناك أولويات تشغل كل بلد عربي ليس من بينها بالضرورة العمل الدائم للتقريب بين فتح وحماس، كما لا يدرك هؤلاء المسؤولون أنه في الوقت الذي يمكن للأطراف العربية المساهمة في التقريب، فإن ذلك يقترن بمحاذير تستحق الالتفات إليها، من التأثير السلبي أحياناً لنفوذ أطراف عربية وإقليمية في المعادلة الفلسطينية الداخلية.

الأفضل أن ترعى أطراف وطنية نزيهة ومستقلة تحظى بأكبر قدر من الاحترام، جهود المصالحة على أرض الوطن، وأن يتوج ذلك في النهاية بمباركة أو ضمانات عربية. من المهم بث رسالة مفادها أن أصحاب الشأن ناضجون بما فيه الكفاية، وأن بوسعهم حل مشكلاتهم الذاتية بأنفسهم. بدلاً من ملء الفضاء العربي ب"سواليف" ومواويل سياسية لا نهاية لها، مع إغفال أن العالم العربي لديه ما يشغله، وأن القضية الفلسطينية قد انخفضت مكانتها، ما يتطلب جدية أكبر من أصحاب الشأن، وإنكار ذواتهم ومصالحهم الفئوية والتنظيمية، وتقديم مصالح وطنهم وشعبهم وأمتهم على ما عداها من اعتبارات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"