هل هنالك مستقبل لـ «بتكوين»؟

03:26 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة*

ثلاثة ظروف تشجع على استعمال العملة المشفرة وتحدد مستقبلها انخفاض التضخم والسوق غير الخاضعة للسيطرة وثالثاً عدم احترام بعض الشعوب للنظام النقدي في الدول التي تحتوي على تضخم مرتفع.
الجميع يتكلم عن النقد الرقمي «بتكوين». العديد يستثمرون في هذا النقد الذي رفضته دول عدة. لماذا ظهر «البتكوين» وما هو مبرر هذا الاهتمام به؟ ظهر بعد فشل المصارف المركزية في الحفاظ على أسعار الصرف، خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا. تعثر الاقتصادات العالمية بدأ من أزمة الركود الكبير برر التداول ببدائل للنقد الرسمي وأعطى بعض الاطمئنان. إذاً فقدان الثقة بالسياسات الاقتصادية وخاصة النقدية سمح لنقد جديد بالظهور والانتشار عبر الحواسب معتمداً على برامج رياضية ورقمية متطورة ومعقدة جداً. بدأ البتكوين بالظهور في سنة 2010 وتقلبت أسعاره كثيراً خاصة السنة الماضية وبالتالي وجب الحذر منه دون ضرورة منعه.
يقول الاقتصادي «روبرت شيللر» Shiller، إن تداول البتكوين يقع بين الاستثمار والقمار حتى لا نقول عنه المغامرة. من يعتبره قماراً أو ميسراً يمكن أن يمنعه كما فعلت بعض الدول العربية. ومن يعتبره استثماراً، يجب أن يضع ضوابط له، خاصة أن تقلباته خطيرة جداً ويمكن أن تطيح بثروات المواطنين غير الملمين بالأسواق المالية، بل يرغبون في الربح الكبير والسريع. نعلم جميعاً أن الرغبة المتهورة غير المحسوبة وغير المدروسة للربح يمكن أن تعطي العكس أي تحقيق خسائر كبرى موجعة. يقول شيللر، إن مشكلة نقد البتكوين أنه لا يرتكز على قاعدة اقتصادية أي على معدن أو سلع أو خدمات أو غيرها وبالتالي من الصعب جدا معرفة القيمة الحقيقية له. في رأيه هنالك ضبابية كبرى حول البتكوين يجعل سعره يتقلب بدرجات مخيفة وسريعة. سوق البتكوين في رأيه مبنية في نفس الوقت على عاملي الضبابية والجشع، وهذا في غاية الخطورة. المعلوم أن الأسواق المالية تكره الغموض أو الضبابية وبالتالي من الصعب تقييم أي أصل في أسواق من هذا النوع.
يقول الحقوقي «تيم وو» Wu، إن عمليات البتكوين تغطي تداولاً غير شرعي وغير واضح، أي مثلاً تبييض الأموال وما يمكن أن يشكل خرقاً للسيادة والأمن والاستقرار. يقول «وو» إن سبب انتعاش سوق البتكوين هو انتقال ثقة المواطن من المؤسسات الشرعية كالمصارف المركزية إلى الحواسب التي تبقى آمنة أكثر في رأيه. هنالك خوف فردي واجتماعي من الأخطاء الإنسانية أو من عدم الكفاءة في إدارة المؤسسات المالية والنقدية، هذا الخوف دفع المواطن إلى التفتيش عن بدائل إنقاذية. هنالك ثقة عالمية قديمة ومتجددة بالتكنولوجيا التي لا تخطئ أو أنها تخطئ أقل من السياسيين والإداريين ورؤساء المؤسسات والشركات. هنالك فقدان ثقة في الحكومات عامة، كما أشارت إليه الانتخابات في أوروبا وأمريكا وغيرها تدفع الناس إلى المجتمع الرقمي الأقل خطورة والذي يعمل بقوانينه المعلنة.
ألف البتكوين «ساتوشي ناكاموتو»، وهو على الأرجح اسم غير صحيح لشخص أو أشخاص نظموا هذه السوق الكبيرة. الركيزة الأساسية للسوق هو العرض حيث حدد ب 21 مليون وحدة من «المستحيل» تجاوزها، علماً أن هنالك 16,7 مليون وحدة متداولة اليوم. هنالك عرض محدود إذا، تماما كالذهب مع الفارق الأساسي هو أن نقل البتكوين أسهل بكثير ويتم عبر الحواسب وبثواني بينما نقل الذهب صعب ويتطلب وجود بنية تحتية له. يمكن حراسة البتكوين عبر ضوابط رياضية وتقنية ولا يحتاج إلى حرس إنساني وأمني كبير كما يحصل مع الذهب الموجود في أسفل طوابق المصارف المركزية العالمية. طبعا وهج الذهب كبير ولا يحصل عليه البتكوين لكنه يلبي حاجة كبرى وهي سهولة التبادل به وسرعة نقله بتكلفة زهيدة عبر تقنيات الأنترنت والاتصالات. شكل البتكوين طريقة جديدة لخلق وحيازة ونقل نقد أو أموال بسرعة عبر القارات. فهو نقد خلق وموجود لأن الناس تريده وليس المؤسسات الرسمية التي اهتزت الثقة بها. هنالك أمل كبير عند الناس بأن يصبح البتكوين أقوى من المصارف والسلطات النقدية وخارج عن إرادتها وسيطرتها، وبالتالي هنالك نوع من الانتقام من المؤسسات التي سببت أزمة 2008 الذي ما زال يعاني منها العالم كما تشهد عليه أوضاع اليونان وغيرها. تشكل البتكوين نوعاً من نقل السلطة من المؤسسات الرسمية إلى الشعب، أي عودة إلى القاعدة. ازدهار البتكوين يعكس مشاعر داخلية كبرى عند الشعوب، وليس هو موضوع مالي أو استثماري فقط، وبالتالي معالجته صعبة وتتطلب عودة الثقة إلى الحكومات والمؤسسات.
تقيم العملات الرقمية ال 1300 بحوالي 600 مليار دولار بينها 55% للبتكوين، وهذا رقم تقريبي لأن القيمة تتحرك كل ثانية أو دقيقة. عالميا هنالك العديد من النقد الرسمي مجموع قيمته حوالي 6 آلاف مليار دولار (6 تريلونات) أي أن قيمة النقد الرقمي 10% فقط من النقد الرسمي. بما أن مجموع الناتج المحلي الإجمالي العالمي يقدر ب 80 ألف مليار دولار، يشكل النقد الرقمي 0,75% من الناتج. أما النقد الرسمي فيشكل 7,5% من الناتج ويصبح 8,25% إذا أضفنا الرقمي إليه. هل يملك الرقمي صفات النقد الثلاثة وهي وسيلة للتبادل، وحدة حساب والثبات في القيمة؟ المواطنين يشترون البتكوين للسبب الثالث أي للحفاظ على استثماراتهم وأموالهم. هل نجح البتكوين بهذه المهمة مع تقلب سعره الخطير؟ مع الوقت يمكن للبتكوين أن يصبح وسيلة تبادل أي لشراء السلع والخدمات كغيره من النقد العادي، لكن هذا يتطلب بعض الوقت كي يصبح مقبولاً في المجتمعات كافة. الطريق طويل لكن الخطوات الأولى تمت.
ما هي الظروف التي تشجع على استعمال البتكوين وتحدد مستقبله؟
أولا: عندما يكون التضخم منخفضاً، استعمال البتكوين للإنفاق يكون جيداً جدا. عندما يكون التضخم مرتفعاً، تبدأ المصارف المركزية بتخفيف الكتلة النقدية لمحاربة التضخم والضغط على البتكوين والعملات الرقمية الأخرى للتخفيف من وجودها واستعمالها. هذا يعني أن وجود العملات الرقمية يشكل تحدياً كبيراً للسلطات النقدية ويضعف من قوتها وتأثيرها. هذا يعني أيضاً أنه من الممكن أن تضطر المصارف المركزية إلى إصدار عملاتها الرقمية لمحاربة البتكوين وبقية العملات. هذا يضبط السوق وينظمها ويمنع عملياً التزوير وسوء الاستعمال. هذا ممكن وإن يكن بعيداً بعض الشيء لكنه متداول دون شك. لا ننسى أنه في سنة 2014، سيطر اللصوص على بورصة أساسية للنقد الرقمي وسرقوا 6% من البتكوين المتوافر ولم يعوض شيء على أصحابه، إذ لا تأمين على الأصل الرقمي.
ثانيا: مشكلة سوق البتكوين أن عدداً قليلاً من المستثمرين يسيطر على السوق. تبعاً لمجلة «بيزنس ويك»، أنه في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، هناك مستثمر واحد باع 25 ألف وحدة بتكوين ب 159 مليون دولار. يسمون هؤلاء الذين يملكون أعداداً كبيرة من النقد «حيتان»، بحيث يحركون الأسعار كما يشاؤون عبر البيع والشراء. تقدر المجلة أن 40% من وحدات البتكوين مملوكة من ألف شخص وأن المئة الأولى لهم 17,3% من المجموع. هؤلاء ينسقون أعمالهم في الشراء والمبيع وهذا ليس مخالفاً للقانون لأن البتكوين ليس سلعة أو نقدا شرعياً أو أسهماً أو سندات، وبالتالي لا تسري عليه قوانين المنافسة.
ثالثا: شعبية البتكوين الأكبر موجودة في الدول التي لا يحترم الشعب نقدها وتحتوي على تضخم مرتفع كما هو الحال اليوم في فنزويلا مثلا. الشعبية كبيرة أيضا في الدول التي تضع قيوداً على تحرك رؤوس الأموال وبالتالي تشكل البتكوين وسيلة للتهرب من هذه القيود.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"