حَفْريات سياسية

12:50 مساء
قراءة دقيقتين

شكراً لنشرة بروسيدينغز البريطانية لأنها أضافت منافساً للديناصور، بعد أن كان هذا الأخير لوقت طويل أمثولة في الانقراض بسبب خلل عضوي، فهو لا يشعر بالألم حتى إذا بتر نصف جسده العملاق.

منافس الديناصور جرذ كان وزنه طناً على الأقل وعاش وانقرض في أوروغواي، والسبب هو أن الجسد العملاق والجمجمة التي يتجاوز محيطها نصف متر لم يكن لديه من الأنياب والأضراس ما يكفي.

كلاهما إذن الديناصور والجرذ يقدمان للمؤرخ إضافة إلى عالم الأحياء نموذجاً لكائنات وكيانات أصابها الخلل ففقدت توازنها، واللغات المنقرضة والمرشحة للانقراض بمعدل لغة واحدة كل ربع ساعة ديناصورات وجرذان من تلك السلالات التي استطال عضو فيها على حساب الآخر، وفشلت في التأقلم فانتهت إلى الحفريات والمتاحف.

والأمم التي تزهو بالكثرة على حساب النوع قد تصاب بهذه العدوى الديناصورية، فلا يشعر وطن مترامي الأرداف والأطراف بالألم إذا بتر قدمه، لهذا ينتهي بالتقسيط المريح لغزاته وقاضميه، ويقول علماء الأحياء إن هناك ضفادع استرالية لا تشعر بالألم إذا مزقها السكين، إلا عندما يقترب من اسفل الرقبة، وعندئذ يكون الأوان قد فات.

معذرة لهذا الاقحام لأمثلة من علم الأحياء لأن وسائل الايضاح لا بد منها في أيامنا بعد أن أصبحت المفاهيم أسيرة التجريد، وغير قابلة للصرف أو المعاينة باليد المجردة وليس بالعين فقط.

لقد تحول جسد الديناصور العملاق إلى عبء على وعيه ودماغه الصغير تماماً كما تحول حجم الجرذ الذي تجاوز وزنه الطن إلى عبء على أنيابه اللينة الصغيرة، ويبدو أن الطبيعة وفيزياءها هما الوجه الآخر للتاريخ البشري، فما حدث لحيوانات سادت ثم بادت قد يحدث للحضارات والثقافات والألم. لأن ثنائية التحدي والاستجابة كما صاغها المؤرخ أرنولد توينبي هي المفتاح الذهبي لهذا القفل العصي، الذي يخفي وراء البوابات حقائق طالما تهرب منها البشر كي يلقوا مسؤولية هزائمهم على سواهم.

إن ما يكابده طائر البطريق كي يحتفظ ببيضة واحدة في درجة برودة تصل إلى الثلاثين تحت الصفر هو أضعاف ما يكابده شعب يقاوم الإبادة، وقد شاهدت فيلماً تسجيلياً عن هذا الكائن العجيب يجعل الإنسان يخجل من مزاعمه بأنه سيد الكون والكائنات.

وليس الانقراض دائماً عضوياً، كما حدث لذلك الجرذ أو الديناصور، إنه أحياناً ثقافي ومعنوي، بحيث يتحول ضحاياه إلى ركام من لحم وعظم وأفواه اسفنجية فاغرة.

ولو قدر لذلك الجرذ العملاق أو ذلك الديناصور البليد أن يكتبا مذكرات لما اضطررنا إلى هذه التداعيات.

وإذا كانت نشرة بروسيدينغز البريطانية تستحق الشكر على هذا الاكتشاف فإن شاعرنا العربي القديم جدير بشكر أعظم عندما قال قبل خمس عشر قرناً:

جسم البغال وأحلام العصافير

منصور

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"