عادي

صندوق النقد الدولي . . “مقرض الملاذ الأخير”

01:30 صباحا
قراءة 8 دقائق
تأليف: إرنست وولف عرض وتلخيص: مرتضى حسن
نشأ صندوق النقد الدولي في الأساس كإحدى المؤسسات التي نجمت عن الحرب العالمية الثانية التي لم تكن وضعت أوزارها تماماً بعد وإن كانت قد أوشكت على النهاية حين جرى عقد مؤتمر "بريتون وودز" في الولايات المتحدة في يوليو/تموز من العام 1944 الذي نجمت عنه الاتفاقية التي أنشئ بموجبها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي . وأصبح الصندوق بعدها أقوى المنظمات المالية الدولية، وشرع في ابتزاز البلدان ونهب القارات، حارماً أجيالاً بأكملها من آمالها في المستقبل الأفضل على مدى سبعة عقود تقريباً مضت منذ إنشائه حتى الآن .
ويقول الكاتب إرنست وولف في مقدّمة كتابه "نهب العالم . . تاريخ وسياسة صندوق النقد الدولي"، الذي نشرته دار "تيكتوم فيرلاغ ماربورغ" الألمانية عام ،2014 إنه وعلى الرغم من أن هذه الحقائق حول الصندوق وآثاره المدمّرة كانت معروفة عالمياً وقد احتج مئات الآلاف على آثار التدابير التي فرضها خلال العقود الماضية مخاطرين بحياتهم في كثير من الأحيان، إلا أن الصندوق تمسك باستراتيجيته بعناد .

"هذا الكتاب مهدى إلى الناس في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية الذين لا يستطيعون قراءته نظراً لأن سياسات صندوق النقد الدولي حرمتهم من الحق في التعليم" .
المؤلف

حزمة من التدابير على الدول المتلقية للقروض لتنفيذ برامج للإصلاح الهيكلي

على الرغم من كل الانتقادات الموجهة للصندوق، وبالرغم من التبعات المؤذية بصورة لافتة للنظر الناجمة عن أفعاله، فإنه لا يزال يتمتع بالدعم غير المشروط من قبل حكومات كل الدول الصناعية المتقدمة .
لماذا يحدث ذلك؟ وكيف يكون في إمكان منظمة تسبب مثل تلك المعاناة الإنسانية العظيمة في جميع أنحاء العالم، أن تستمر في العمل بمنجى من المساءلة والعقاب، وأن تحظى بالدعم من قبل أقوى القوى الموجودة في عالمنا؟ ولمصلحة من يعمل صندوق النقد الدولي؟ ومن المستفيد من أفعاله؟
هذه هي الأسئلة التي يرمي هذا الكتاب للإجابة عنها .
أحدث اتباع نصائح الصندوق من الليبراليين الجدد المتحالفين مع الديكتاتور الطاغية بينوشيه في تشيلي بقارة أمريكا الجنوبية دماراً اقتصادياً واجتماعياً واسع النطاق، حيث ارتفع معدل البطالة من 3% في العام 1973 إلى 7 .18% بنهاية العام ،1975 بينما ارتفع التضخم إلى 341% وانزلق القسط الأكبر من السكان نحو أتون الفقر المدقع .
أحكم الصندوق قبضته على السياسة والاقتصاد في الدول النامية المتلقية للقروض عبر حزمة من التدابير بدعوى تنفيذ برامج للإصلاح الهيكلي وتقويم الأوضاع، في حين نجد تلك البرامج مصممة في الواقع لإحكام السيطرة على زمام الأمور في البلدان تعيسة الحظ وضمان تحقيقها مصالح الصندوق والقوى التي تقف وراءه فقط، فكانت نتائجها الكارثية على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الدول النامية على حد سواء .
وقام الصندوق بتطبيق 566 برنامجاً للاستقرار والإصلاح الهيكلي في 70 بلداً نامياً بين الأعوام 1980 و1993 وظهرت الآثار المدمرة لها بادية للعيان حيث تدهورت الأوضاع في بلدان قارات إفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا التي كان الصندوق ناشطاً فيها، ويقوم بتنفيذ تدابيره التقشفية القاسية بتعاون وثيق مع الحكومات الوطنية وأدواتها القمعية .
وأصر الصندوق بعناد على الاستمرار في التمسك باستراتيجيته المدمرة عند تعامله مع جميع البلدان النامية وفي جميع الأحوال بدلاً من مراجعتها . وقاد ذلك لظهور وتنامي حركة مقاومة واسعة لصندوق النقد الدولي وسياساته وإجراءاته في الدول النامية، وفقد عدة آلاف من الأشخاص حياتهم أو جرحوا في 150 تظاهرة رئيسية مناهضة للصندوق جرت في 39 بلداً بين العامين 1976 و1992 .
في أواخر الثمانينات لجأ ميخائيل غورباتشوف السكرتير العام للحزب الشيوعي، وآخر رؤساء الاتحاد السوفييتي، إلى مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى لإنقاذه من المشكلات الاقتصادية العميقة التي غرقت فيها بلاده آنذاك، وكلفت الولايات المتحدة الصندوق تقديم الدعم والمشورة اللازمين، وأبدى الصندوق على غير عادته تأنياً وقدراً كبيراً من المرونة والضبط في تعامله مع التطورات الحادثة في الجمهوريات السوفييتية السابقة .
صمم خبراء الصندوق برنامجاً للتحول الجذري في الاتحاد السوفييتي على غرار النموذج التشيلي أطلقوا عليه "برنامج الصدمة"، بدأ تطبيقه فعلياً في بداية العام 1992 عقب تنحي غورباتشوف، وكانت له آثار تدميرية هائلة لحقت بالبنيات الاقتصادية والاجتماعية في السنوات التالية، لم يسبق لها مثيل في أشد أوقات الاتحاد السوفييتي السابق حلكة .
ولم يكن هدف سياسات صندوق النقد الدولي أو القوى الغربية التي تقف خلفه تحقيق الديمقراطية أو مساعدة الشعب الروسي في تحقيق المزيد من الازدهار والحرية كما هو معلن، إنما كان الهدف الحصري لها هو كسر الحواجز التي تعيق تدفق الرساميل العالمية، وإتاحة الفرصة أمامها للإمساك بثروة البلاد الروسية واستغلال العمالة الرخيصة والماهرة فيها تحقيقاً لمصالح تلك القوى التي تقف خلف الصندوق وحفنة صغيرة من الأثرياء والفاسدين وذوي النفوذ المحليين .
ويعرض الكتاب بعد ذلك لتجارب الصندوق المماثلة في جنوب إفريقيا في حقبة ما بعد الفصل العنصري، والتحالف المريب الذي جمع الصندوق والمؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم في مواجهة مصالح الأغلبية من جماهير الشعب في تلك البلاد .
ويشير إلى تراجع المؤتمر الوطني الإفريقي عن وعوده الإصلاحية الاقتصادية خلال المرحلة التي سبقت الانتخابات العامة التي جرت في إبريل/نيسان 1994 بعد انهيار نظام الفصل العنصري السابق، مثل تلك المتعلقة بإعادة توزيع ملكيات الأراضي، واستبدالها بتطبيق سياسات من الإصلاحات "الموجهة للسوق" التي أوصى بها صندوق النقد الدولي .
وترتب على تلك السياسات التي تبناها المؤتمر الوطني الإفريقي وفرضها على السكان، الاستغناء عن آلاف الوظائف وخفض للرواتب والأجور في القطاع العام في حين منحت الشركات والأثرياء مزايا وإعفاءات ضريبية، والتي كانت لها عواقب كارثية على الحالة المعيشية للملايين في جنوب إفريقيا .

إفقار أوروبا الشرقية

أما في علاقته مع أوروبا، فقد كُتب فصل قاتم من تاريخ صندوق النقد الدولي في جمهورية يوغسلافيا الاشتراكية السابقة حيث شارك الصندوق بفعالية خلال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين الماضي في إفقار شعبها المكون من 24 مليون نسمة، وساعد في تفكيك الدولة المتعددة الإثنيات، وصنع بالتالي الظروف المواتية لأكثر الصراعات في الأراضي الأوروبية دموية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية .
وفي آسيا لم يقم الصندوق بدوره في التحذير من المخاطر المحدقة التي كانت تلوح في الأفق بسبب حركة الرساميل و"الأموال الساخنة" في منتصف التسعينات من القرن العشرين، وبدلاً من ذلك فقد شجع ذلك الاتجاه حتى بعد بداية الكارثة التي لحقت باقتصاديات ما عرف بالنمور الآسيوية بسببها .
وعندما تزايد عجز الدول الفقيرة عن سداد ديونها والفوائد المتنامية باستمرار، تقدم الصندوق بوصفات للعلاج كان الداء أهون منها؛ ومن ذلك مبادرة إعفاء الدول المثقلة بالديون "الهيبيك" التي لم تكن ترمي لتخليص تلك الدول الفقيرة من أعباء ديونها الثقيلة في الواقع بقدر ما كانت ترمي لمساندتها لكي تصبح قادرة على دفع الفوائد الباهظة المترتبة على الديون التي لم تستفد منها تلك البلدان أصلاً، وكل ذلك لمصلحة حفنة من كبار المقرضين والدول والمؤسسات الغنية في العالم .

عن الكاتب

ولد إرنست وولف في العام ،1950 وأمضى سنوات حياته الأولى في جنوب شرق آسيا، وذهب إلى المدرسة في ألمانيا، ثم درس التاريخ والفلسفة في الولايات المتحدة، وعمل في عدة مهن بما فيها الصحافة والترجمة والكتابة للشاشة (نصوص وسيناريوهات الأفلام) .

وصف الكتاب

يقع كتاب "نهب العالم . . تاريخ وسياسة صندوق النقد الدولي" للكاتب إرنست وولف، الذي نشرته دار "تيكتوم فيرلاغ ماربورغ" الألمانية عام ،2014 في 206 صفحات من القطع المتوسط، ويضم مقدمة عامة تتضمن وصفاً تلخيصياً للأفكار والمفاهيم الرئيسية التي تناولها الكاتب، يليها واحد وعشرون فصلاً، ثم ثبت للمصادر والمراجع .

العولمة الاقتصادية

يكمن مفتاح الإجابة عن هذه التساؤلات في طبيعة البيئة والظروف التي ظل يعمل من خلالها الصندوق، تلك الظروف التي تغيرت كثيراً منذ نشأته عقب الحرب العالمية الثانية، وما تلا ذلك من حل النظام الذي ترتب على اتفاقية "بريتون وودز" وصعود العولمة الاقتصادية، وضعف حركة اتحاد التجارة العالمية، واستعادة الرأسمالية في الاتحاد السوفييتي السابق والدول التابعة له، وأخيراً للتزايد المطرد في أهمية القطاع المالي .
على أن الإجابة نفسها تكمن بإيجاز في قوى الهيمنة الغربية التي تقف وراء صندوق النقد الدولي وعلى رأسها شوارع المال في "وول ستريت" بالولايات المتحدة، و"فليت ستريت" في لندن عاصمة المملكة المتحدة التي تدين بالقدر الأكبر من سطوع نجمها وسطوتها في العالم لتزايد أهمية النظام المالي ومؤسساته، والتي هي المستفيد النهائي وربما الوحيد من الصندوق وسياساته وإجراءاته .
قادت العولمة الاقتصادية وتزايد أهمية المؤسسات المالية إلى تركز غير مسبوق للثروة والسلطة في أيدي الأرستقراطية المالية، ومع إطلالة الأزمة المالية العالمية برأسها في العام 2007 وانتقالها بسرعة من مركزها في الولايات المتحدة لتنتشر في أنحاء العالم، حول الصندوق انتباهه إلى أوروبا الشمالية مع المشكلات المصرفية التي حدثت في بنوك أيسلندا في خريف عام ،2008 وتلك التي ضربت البنوك والسوق المالي وقطاع العقارات في أيرلندا، ثم تحول تركيزه إلى جنوب أوروبا مع بداية أزمة اليورو في العام 2009 .

ازدهار ايرلندا

تمتعت ايرلندا بازدهار اقتصادي ونمو غير مسبوق بين العامين 1995 و،2007 وذلك نتيجة لعدة عوامل من بينها القواعد التي تنظم العمل والأجور، وتقليص الضرائب على الشركات، والدعم الذي حظيت به بعد انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى غياب أي إشراف ورقابة فعالة على النظام المصرفي، الأمر الذي جعل من أيرلندا واحة مالية بحق .
واعتباراً من منتصف عقد التسعينات تحولت رؤوس الأموال المصرفية أكثر نحو سوق العقارات بدعم من الحكومة الأيرلندية، وحدثت طفرة كبيرة في هذا القطاع، وعندما ضربت الأزمة المالية العالمية بين العامين 2007 و،2008 فإنها وجدت في أيرلندا حقل ألغام جاهزاً لها، وفي غضون عام واحد انفجرت فقاعتا المضاربة في السوق المالي، والقطاع العقاري كلتاهما في آن معاً .

إفلاس الأرجنتين

يتناول الكتاب بعد ذلك دور الصندوق في أزمات الأرجنتين المتلاحقة التي نجم عنها أكبر إفلاس لدولة في التاريخ وإدخال أحد أكبر اقتصادات أمريكا الجنوبية والعالم في دورات متلاحقة من الركود وعدم الاستقرار، بعد تطبيق البلاد البرنامج الاقتصادي لإصلاحات الليبراليين الجدد وأبناء مدرسة شيكاغو المخلصين لصندوق النقد الدولي والقوى التي تقف من خلفه، في ظل الأنظمة الديكتاتورية التي تعاقبت على حكمها منذ الخمسينات، على الرغم من الفظاعات والانتهاكات العديدة التي ارتكبتها تلك الأنظمة لحقوق الإنسان .
ونجم عن تلك النصائح في الحالة الأرجنتينية بيع 40% من الشركات المملوكة للدولة و90% من بنوك القطاع العام بأثمان بخسة للمستثمرين الدوليين الذين كانوا يحولون الأرباح الناتجة عنها فوراً للبلدان الغربية الثرية في صورة عملات صعبة، ما قاد عملة البلاد "البيزو" لأن تفقد قدراً كبيراً من قيمتها، ولتنامي الدين العام لأكثر من 114 مليار دولار، ولدفع 37% من السكان نحو الفقر المدقع في حقبة "كارلوس منعم" وحدها (1989 - 1999) .
وهنا قد تثور أسئلة حول كيف أمكن لمنظمة يعمل بها أقل من ثلاثة آلاف موظف، يجلس العديد منهم خلف مناضدهم في واشنطن، تحقيق مكانة عالمية فريدة في تاريخ العالم الاقتصادي؟ وكيف تسنى لها أن تحتفظ بتلك الآثار الممتدة على حياة قدر معتبر من البشرية على امتداد العالم وعبر كل الحدود الوطنية؟ وما الذي تسبب في ترك ذلك القدر الكبير من القوة التي يملكها الصندوق مركزة فيه على مدار نصف قرن أو أكثر حتى الآن؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"