عادي

صندوق النقد الدولي . . “مقرض الملاذ الأخير”

05:17 صباحا
قراءة 8 دقائق
تأليف: إرنست وولف عرض وتلخيص: مرتضى حسن

نشأ صندوق النقد الدولي في الأساس كإحدى المؤسسات التي نجمت عن الحرب العالمية الثانية التي لم تكن وضعت أوزارها تماماً بعد وإن كانت قد أوشكت على النهاية حين جرى عقد مؤتمر "بريتون وودز" في الولايات المتحدة في يوليو/تموز من العام 1944 الذي نجمت عنه الاتفاقية التي أنشئ بموجبها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي . وأصبح الصندوق بعدها أقوى المنظمات المالية الدولية، وشرع في ابتزاز البلدان ونهب القارات، حارماً أجيالاً بأكملها من آمالها في المستقبل الأفضل على مدى سبعة عقود تقريباً مضت منذ إنشائه حتى الآن .
ويقول الكاتب إرنست وولف في مقدّمة كتابه "نهب العالم . . تاريخ وسياسة صندوق النقد الدولي"، الذي نشرته دار "تيكتوم فيرلاغ ماربورغ" الألمانية عام ،2014 إنه وعلى الرغم من أن هذه الحقائق حول الصندوق وآثاره المدمّرة كانت معروفة عالمياً وقد احتج مئات الآلاف على آثار التدابير التي فرضها خلال العقود الماضية مخاطرين بحياتهم في كثير من الأحيان، إلا أن الصندوق تمسك باستراتيجيته بعناد .
على الرغم من كل الانتقادات الموجهة للصندوق، وبالرغم من التبعات المؤذية بصورة لافتة للنظر الناجمة عن أفعاله، فإنه ما يزال يتمتع بالدعم غير المشروط من قبل حكومات كل الدول الصناعية المتقدمة .
لماذا يحدث ذلك؟ وكيف يكون في إمكان منظمة تسبب مثل تلك المعاناة الإنسانية العظيمة في جميع أنحاء العالم، أن تستمر في العمل بمنجى من المساءلة والعقاب، وأن تحظى بالدعم من قبل أقوى القوى الموجودة في عالمنا؟ ولمصلحة من يعمل صندوق النقد الدولي؟ ومن هو المستفيد من أفعاله؟
هذه هي الأسئلة التي يرمي هذا الكتاب للإجابة عنها .


انفجار السوق المالي الأيرلندي


ترتب على انفجار فقاعة السوق المالي وسوق العقارات الأيرلندي سلسلة من ردود الأفعال: حيث أغلقت عشرات الشركات أو غادرت البلاد، وارتفعت معدلات البطالة، وزادت نسبة التعثر في سداد القروض، وأصبح النظام المصرفي موضوعاً تحت ضغوط هائلة .
استجابت الحكومة في دبلن بإصدار ضمانات على الودائع في ست مؤسسات مالية أيرلندية رئيسية في 30 سبتمبر/أيلول عام ،2008 وكانت تلك خطوة غير معقولة، حيث إن إجمالي مبلغ 485 مليار يورو المطلوب لتغطية الضمان كان يتجاوز 7 .2 مرة قدر الناتج المحلي الأيرلندي ويفوق طاقة الحكومة بكثير، لكنها كانت إشارة مهمة لرأس المال العالمي الذي تمثله البنوك الرئيسية وصناديق التحوّط التي أضحت متأكدة من أن الدولة الأيرلندية، أي الناس الذين يدفعون الضرائب، سيدفعون لهم خسائرهم في خاتمة المطاف .
وفي يونيو/حزيران 2010 بلغ جبل الدين الحكومي 530 مليار يورو، وكانت الحكومة الأيرلندية مدينة للمقرضين الأوروبيين بمبلغ 369 مليار يورو، وعندما بدأت الشائعات حول أن أيرلندا في طريق الإفلاس، تحول رئيس الوزراء الأيرلندي برايان كوين في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2010 نحو الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي طالباً المساعدة، وسرعان ما قررت المؤسستان منع الإفلاس الوشيك بأي ثمن، حتى لا تتم المخاطرة باحتمال حدوث انهيار للمصارف في ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة .
وصمم الصندوق بالتعاون مع البنك المركزي الأوروبي برنامجاً للإنقاذ يمتد لثلاث سنوات متضمناً قرضاً بمبلغ 85 مليار يورو، وخطة تقشفية قاسية تتضمن خفضاً لآلاف الوظائف وخفضاً لمخصصات الضمان الاجتماعي، وزيادة الضرائب على الأجور وغيرها، إلى جانب العديد من الإجراءات والتدابير الأخرى المعهودة في خطط الصندوق .
وأجبرت الحكومة على بيع الأصول العامة للمستثمرين الأجانب بأسعار بخسة، وكانت النتيجة النهائية لذلك هي أن أعداداً متزايدة من الشعب الأيرلندي واجهوا في السنوات الأخيرة تدهوراً كبيراً في أحوالهم المعيشية، وانفجاراً لمستويات غير مسبوقة من الفقر بدرجة لا يمكن تخيل حدوثها في بلد أوروبي مع بدايات الألفية الثالثة .
تزايدت الأدلة على وجود تطورات حرجة في أجزاء أخرى من منطقة اليورو، وبصفة خاصة في دول جنوب أوروبا، خلال فترة تدخل صندوق النقد الدولي في أيرلندا .
لا خروج من "اليورو"
وظهرت في بعض الدول الضعيفة مثل اليونان والبرتغال علامات على احتمال دخولها في وضع التخلف عن سداد الديون، وبدأ التفكير فيما لو كان ممكناً للبلدان الضعيفة المثقلة بالديون تجاه الدول الغنية الكبرى، الخروج من منطقة اليورو والعودة إلى عملاتها القديمة حتى تتم إعادة تقويم اقتصاداتها .
لكن المخاطر التي يحملها الأمر على وجود الاتحاد النقدي الأوروبي وعلى النظام المالي العالمي برمته، جعلت قادة صندوق النقد الدولي يتوصلون إلى أنه يجب عدم السماح لأي دولة في منطقة اليورو بالخروج من الاتحاد النقدي وتم الاتفاق على أن يبقى الحفاظ على اليورو يحظى بالأولوية القصوى .
فرض خبراء الصندوق خطة تدابير تقشفية على دول جنوب أوروبا شبيهة بتلك التي طبقت في أيرلندا، تضمنت الخروج من الأصول المملوكة للدول وبيعها للمستثمرين، والتدخل بصورة أكبر في سوق العمل في القطاع الخاص بهدف زيادة تنافسية الاقتصادات المعنية، والتخلص من عبء الصرف الحكومي على القطاع العام .
وباختصار فوفقاً لهذه التدابير فإنه يجب تقليل مستوى معيشة السكان لمستويات لم تشهدها القارة الأوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية .
وجد صندوق النقد الدولي في الحالة الأوروبية حليفين موثوقين قيمين يساعدانه في تطبيق التدابير التقشفية المطلوبة خلال فترة زمنية قصيرة، ووضع تحالف الترويكا التاريخي المكون من الصندوق والاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي كل القارة ومكوناتها القطرية تحت أحكام إدارته القسرية .
وتتلاقى المؤسسات الثلاث المكونة للترويكا في أهدافها النهائية المتمثلة في الحفاظ على مصالح رأس المال العالمي والشركات الكبيرة، والسماح بتراكم ثروات بمعدلات غير مسبوقة في النهايات العظمى للمجتمعات الأوروبية الغنية أصلاً، في حين تقود لتراجع مطرد في مستويات معيشة السكان في النهاية الدنيا لتلك المجتمعات، كل ذلك مع الترويج لنفسها بوصفها حارساً للسلام ومحركاً للازدهار .

عن الكاتب

ولد إرنست وولف في العام ،1950 وأمضى سنوات حياته الأولى في جنوب شرق آسيا، وذهب إلى المدرسة في ألمانيا، ثم درس التاريخ والفلسفة في الولايات المتحدة، وعمل في عدة مهن بما فيها الصحافة والترجمة والكتابة للشاشة (نصوص وسيناريوهات الأفلام) .

وصف الكتاب

يقع كتاب "نهب العالم . . تاريخ وسياسة صندوق النقد الدولي" للكاتب إرنست وولف، الذي نشرته دار "تيكتوم فيرلاغ ماربورغ" الألمانية عام ،2014 في 206 صفحات من القطع المتوسط، ويضم مقدمة عامة تتضمن وصفاً تلخيصياً للأفكار والمفاهيم الرئيسية التي تناولها الكاتب، يليها واحد وعشرون فصلاً، ثم ثبت للمصادر والمراجع .

البيانات المتناقضة بين العافية والهاوية

وفقاً لوسائل الإعلام العالمية فإن العالم يشهد منذ العام 2011 تعافياً اقتصادياً ومالياً من انهيار العام ،2007 وفي الوقت نفسه يغرق الوسائل نفسها طوفان من التقارير التي تشير إلى أن النظام المالي العالمي يقف على شفير الهاوية، وربما يكون سقوطه النهائي مسألة وقت لا يتعدى أسابيع وربما لا يتعدى أياماً .
ويمكن تفسير حقيقة إمكانية وجود الظاهرتين معاً بطبيعة الوضع الفريد الذي نعيشه في الوقت الراهن والذي هو نتيجة للتطورات غير المسبوقة التي لا تماثل أي إطار آخر موجود، ومع ذلك فلا يمكن أن يكون أمراً هو أبعد من أن يكون حقيقة من افتراض أن الاقتصاد العالمي في طريقه نحو التعافي .
وعلى العكس تماماً، فلم تساعد كل التدابير التي اتخذت منذ الأزمة المالية العالمية في العام 2007 بهدف جلب الاستقرار للنظام، إلا في تقويضه وإضعافه وجعله أكثر عرضة للمخاطر على المدى الطويل منه في أي وقت مضى .
ويكفي أن نشير إلى ارتفاع عبء الدين العالمي الذي كان يبلغ 70 تريليون دولار في عام 2007 ليقف عند 100 تريليون دولار بحلول منتصف العام 2013 .
كما قاد الخوف من التضخم والانتشار الواسع لفرط المضاربة لحالة أصبحت معها الأصول المادية تعمل بوصفها ملاذاً آمناً لحفظ الثروة، ما قاد لتسخين سوق العقارات العالمي وتسبب بفقاعات هائلة الحجم في أسعار العقارات .
ولم تنجم حقيقة الوضع الراهن المفزع الذي نعيشه فقط كنتيجة منطقية لحالة النظام الذي يعمل في الوقت الحالي والذي يطغى فيه تحقيق الأرباح على أي اعتبارات أخرى، ولكنه مؤشر أيضاً لما ينبغي علينا أن نتوقعه في مقبل الأيام إن استمر الحال على ما هو عليه .
وتبدو التبعات المترتبة على تلك الاختلالات جلية في ثلاثة اتجاهات مهمة حدثت في السنوات الأخيرة ولم تستمر فقط ولكنها تسارعت وهي تركز القوى الاقتصادية والمالية في أيدي عدد متناقص باستمرار من المنشآت والمؤسسات، وتركز مقادير كبيرة من الثروات في أيدي حفنة صغيرة من الأشخاص الفائقي الثراء، وتفكيك الحقوق العامة لصالح زيادة الامتيازات الممنوحة لأقلية تتقلص باستمرار .
وكانت النتيجة النهائية لهذه التطورات السريعة والفتاكة هي التزايد غير المسبوق لظاهرة عدم العدالة الاجتماعية على نطاق العالم، حيث امتلك 85 شخصاً الأكثر ثراءً في العالم في عام 2013 أصولاً يبلغ حجمها 7 .1 تريليون دولار، ويعادل مستوى ثروتهم ما يمتلكه 5 .3 مليار نسمة أو نصف البشرية جميعاً، ذلك في حين تم سوق ملايين الأشخاص في الطبقات الدنيا من المجتمع نحو الفقر المدقع عبر برامج الليبراليين الجدد التقشفية .
وقادت تلك السياسات التي ساعد صندوق النقد الدولي على ترويجها إلى وضع أصبحنا معه نسكن عالماً هو الأكثر من حيث عدم المساواة على مر الأزمان، ذلك مع تزايد التوتر الاجتماعي لمستويات وبوتيرة غير مسبوقة تاريخياً، بينما لم تفلح أي من التدابير التي اتخذت في السنوات الأخيرة في تحجيم الأزمة، كما لم تقد لتحسين الأوضاع أو استقرارها .

اليونان والكارثة المالية

حين أعلنت الحكومة اليونانية الجديدة آنذاك في نهاية أكتوبر/تشرين الأول من العام 2009 عجزها عن الالتزام بمتطلبات الاتحاد الأوروبي الحفاظ على عجز الموازنة عند حدود 7 .3% من الناتج المحلي الإجمالي، تدخلت الترويكا على الفور وتولت زمام التحكم في الميزانية اليونانية وفرضت أقسى تدابير تقشفية تشهدها البلاد منذ نهاية الدكتاتورية العسكرية في العام 1974 .
وتسببت الحزم المتتالية من التدابير التقشفية بالغة القسوة بحدوث أزمات وكوارث غير مسبوقة لحقت بحياة السكان من الطبقات الفقيرة والمتوسطة وقادت لانهيار كامل لنظام الضمان الاجتماعي والخدمات العامة في اليونان، وعلى سبيل المثال تسببت الإجراءات المتبعة لإصلاح النظام الصحي بإغلاق 46 من 130 مستشفى مع خفض ميزانية البقية بنسبة 40%، والاستغناء عن 26 ألفاً من العاملين فيها، 9100 من بينهم أطباء .
ويمكن للمرء تخيل النتائج الكارثية المترتبة على ذلك من انتشار الأمراض التي كانت انقرضت في أوروبا مثل الملاريا والسل وحمى غرب النيل وحمى الضنك بنسب كبيرة، ولعل الأرقام الأكثر إثارة للصدمة من بين تلك الحقائق المفزعة هي زيادة معدل المواليد دون الوزن الطبيعي بنسبة 19% في الفترة بين العامين 2008 و،2010 وزيادة وفيات الأطفال الرضع بنسبة 43% خلال الفترة نفسها .
وفي الوقت الذي كان فيه قادة الترويكا يناقشون المخاطر المحدقة باليونان ذات الأحد عشر مليوناً من السكان وكيفية تلافيها، اجتذبت ثالث أكبر جزيرة في البحر المتوسط اهتمامهم في مارس/آذار 2013 حين أصبحت الحكومة القبرصية في يونيو/ حزيران 2012 الخامسة في منطقة اليورو بعد أيرلندا واليونان وإسبانيا والبرتغال، التي تتقدم بطلب لمساعدتها على الخروج من الصعوبات المتزايدة التي كانت تواجهها وتتطلب حلاً عاجلاً لها .

"هذا الكتاب مهدى إلى الناس في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية الذين لا يستطيعون قراءته نظراً لأن سياسات صندوق النقد الدولي حرمتهم من الحق في التعليم" .

المؤلف

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"