الواقع الافتراضي القديم

23:33 مساء
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

يحلو للبعض أن يتحدث بشاعرية مفرطة في التفاؤل، عن التكنولوجيا فائقة الحداثة التي نعيش تجلياتها منذ عقدين تقريباً. فشبكة الإنترنت جعلت العالم أصغر من قرية، بما يؤدي في النهاية إلى نوع ما من التضامن بين البشر، وربما إلى إشاعة مناخ من تفهم الآخر والتسامح مع المختلف، أما مواقع التواصل فهي متنفس للبسطاء، فبإمكانهم للمرة الأولى في التاريخ أن يعبروا عن أنفسهم: آمالهم وهمومهم.. إلى آخر تلك المفردات المشتقة من قاموس هو أقرب للغة الأحلام.

 للمفكر الراحل جورج طرابيشي دراسة مطولة تقع في أكثر من مئة صفحة عن مواقع على الشبكة تنتمي إلى ديانات مختلفة، وهي مواقع أبعد ما تكون عن وصفها بالإرهاب، ولكنها في الحقيقة لا تشيع إلا الكراهية بين البشر والصراع بين الأفكار والرؤى المختلفة، وإذا تركنا الجانب الفكري، واتجهنا لنختبر مقولة القرية التي روجها كل من بشرنا بالعولمة، سنجد أننا عندما نضعها في سؤال فسوف تتهافت أمامنا: هل أدت العولمة إلى قدر ما ملحوظ من السلم العالمي؟ لقد زادت محنة الجغرافيا أكثر في الراهن، فلا يوجد مكان إلا وهناك توترات بصورة أو أخرى، وعندما نتجه إلى مستوى آخر من الجغرافيا، ولنطلق عليها «الجغرافيا الإنسانية»، سنكتشف أننا أصبحنا نعيش في أزمة علاقات حقيقية على مستوى الصداقة، وربما داخل الأسرة الواحدة.

 محنة الجغرافيا تتصاعد مع مواقع التواصل، لتجعل من الفرد أشبه ما يكون بالجزيرة المعزولة، لم توفر له حرية التعبير عن رأيه في ما يتعلق بحياته ومستقبله وحسب، ولكنه أصبح يتحدث في مختلف الموضوعات: السياسية والدينية والفلسفية، من دون خلفية أو دراسة أو امتلاك أبسط المعلومات أو القدرة على التحليل، وأفرزت هذه الجزر نخبتها فيمن يطلق عليهم «المؤثرون اجتماعياً»، وسُمي هذا الفضاء ب«العالم الافتراضي»، وقيل لنا في البداية إنه يوازي عالمنا الواقعي، ثم أخبرنا الكثير من المتحمسين أنه أصبح أكثر تقدماً من واقعنا، ولا ندري ما هي إنجازات ذلك الفضاء على وجه الدقة التي تمنحه كل هذا التفوق.

 لقد كان الكثيرون من أصحاب النزعة الواقعية ينتقدون دائماً المشتغلين في الواقع «الافتراضي القديم»، العلوم الإنسانية والأدب، ولكن تاريخ الفلسفة يشهد على أفكار عظيمة شيدت عقولاً وأثرت في حضارات، ويخبرنا تاريخ الأدب عن روايات استطاعت تغيير قوانين مجحفة، وهو عكس ما أنجزه الواقع الافتراضي الجديد تماماً، والأكثر مدعاة للأسى أن ذلك «الواقع الافتراضي القديم» معرض للاختفاء، وربما يكتب أحدهم في المستقبل عن بعض البشر الذين كانوا يوماً ينتجون أفكاراً توجع الرأس تسمى «فلسفة»، ويكتبون عن أعماق الإنسان في شكل أطلقوا عليه «الأدب».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"