الجغرافيا في حقيبة الشاعر

00:01 صباحا
قراءة دقيقتين

محمد عبدالله البريكي

قصيدة الشاعر مرآة تعكس واقعه الذي يعيشه، وتنقل صورة نقية توصل القارئ إلى خصائص المكان وتفاصيله الكثيرة؛ فالشاعر على اتصال دائم ببيئته، وهي التربة التي تنمو فيها أشجار تجلّياته، وتنضج فيها أفكاره، وتختمر في مداها رؤاه.. والشاعر حين يخاطب البيئة، فإنه يضفي عليها الحيوية، ويمنحها الحياة، ويؤنسن أشياءها، ويلمس عطر جمالها، فحروفه تكتنز بالصورة، وتفيض بالخيال، وتتجلّى فيها لمساتٌ ساحرةٌ آسرةٌ من اللغة الواسعة التي يعرف كيف يطوّعها، ويصنع منها قلائد يعلّقها على صدر الخلود.

مخاطبة الشاعر لمدينته وطبيعته ليست مخاطبة عادية، فهو لا ينقل مادة يراها أمامه، ليحجز لها مساحة في نصه، إنما يأخذ من أنفاسها وعطرها ما يجعله يرسم لها صورة حية برمزيتها وما تمتلكه هذه الرمزية من إيحاءاتٍ تستظل بسماء المعنى الذي لا يستطيع أن يكون رسول الشاعر، ما لم يكن قادراً على اختزال دقّة الملاحظة وقوّة الخيال، وهنا يتجلى الإبداع الفني في الشعر، وهو ما أتاح لنا قراءة نصوصٍ فارقةٍ في الشعرية العربية، نقلت للأجيال صورة عن الطبيعة وتفاصيلها في إبداعات تعيش في الذاكرة، مثل قصائد شعراء العصر الأندلسي الذين نقلوا الطبيعة في أشعارهم، وأضافوا لها جمالاً يتناغم مع جمال الطبيعة الخلابة. 

لكن قد لا يقتصر النص على هذا الغرض، فهو يشكّل رؤيةً جماليةً عبر تعاطيه مع الأغراض الشعرية الأخرى، فقد تنمو المدينة في القصيدة بالرثاء، وقد تكون في نص ما امرأة ثكلى تبكي أبناءها، وتكون في نص آخر عروساً تلبس أبهى الحلل لاستقبال فارس أحلامها، وقد يبرز جمال المكان عبر العاطفة، وقد تتشكل صورة مغبّشة للبيئة بالهجاء، وقد يحضر الوطن بحروفٍ صادقةٍ تعبّر عن الانتماء والهويّة.

إنه الشعر الذي تتشكّل رسومه الهندسية عبر رؤى الشاعر ودقة ملاحظاته، وارتباط الصورة مع حالته الشعورية التي كتبها، والغرض الذي قيلت فيه، وهو ما يعطي دلالة على الارتباط العميق، والصلة الوثيقة التي تربط الشاعر بالمكان، مثلما تربطه بالزمان، وما حضور الطلل في الشعر العربي منذ نشأته وتجدده المستمر عبر العصور إلا دليلٌ على هذه العلاقة التي لا تنفك عراها، ولذلك فالشاعر يحمل الجغرافيا وتفاصيلها معه في أسفاره، ويحلّق بها فوق الغيوم، ويهبط بها المطارات، ويلوّن بها غرف إقامته، ويحملها في حقيبة سفره عطراً أخاذاً يباهي به غيره، ويبزُّ بألقه أقرانه، فهي خليلة القصيدة، وحليلة الشاعر، ووعاء أفكاره، ومهجعه الذي يأوي إليه، كما يأوي الطائر إلى إلفه، وبها تزدهر الآداب التي تتبادل الجمال مع صنّاعه ومهندسيه في نصوصهم الشعرية الخالدة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"