عادي

هنري كول يتذوّق باريس ملعقة.. ملعقة

21:45 مساء
قراءة 4 دقائق
5

يتذوّق الشاعر الأمريكي هنري كول باريس ملعقة ملعقة إن جاز الوصف في كتابه «باريس الأورفية»، «ترجمة: أماني لازارا، إصدارات - روايات ٢٠٢٠»، ولكن قبل شرح هذا التذوّق من جانب شاعر لمدينة، نتساءل عن الربط بين باريس وبين الأورفّية، أو الربط بين المدينة وبين الشاعر والموسيقي «أورفيوس» في الأسطورة اليونانية الموسيقي الساحر أيضاً، والمغامر، والعاشق وهو يبحث عن زوجته في العالم السفلي.

كل من كان يسمع موسيقى أُورفيوس كان يعتريه نوع من السحر، ولعلّ باريس هنا هي المدينة الساحرة التي أعادها هنري كول إلى إشاراتها ورموزها الأسطورية، ولكن بلغة شاعر وضع كتاباً له عنوان فرعي آخر هو «الساحة الأدبية في باريس»، كتاب في مثل عذوبة باريس، وتنوّعها، وروحها الأوروبية المتجدّدة دائماً في الكتابة، وفي الحياة.

مزيج هادئ من التأمل في باريس، وهو أيضاً كتاب يوميات، والمرور الجمالي على الأماكن واستعادة من كانوا قد عاشوا فيها، كتاب تجوال أيضاً، وفيه شيء من التاريخ والكثير من الحب والشعر، بل هو كتاب شعراء كان بعضهم قد عاش في باريس، ويبدو هنري كول هنا، كما لو أنه يتقصّى الأماكن التي عاش فيها هؤلاء الشعراء، وكانوا، مثله، قد تذوّقوا باريس، وعاشوا «سياحتهم الأدبية».

هذا النوع من الكتابة يلائم تماماً طبيعة هنري كول المولود في العام ١٩٥٦، وهو الآخر كما لو أنه خليط أورفيوسي أو أورفي، فقد وُلِدَ في اليابان، أمّه فرنسية، وأبوه أمريكي، وحين جاء إلى باريس استأجر له شقة صغيرة في الحيّ اللّاتيني المعروف عندنا نحن العرب بإشاراته الثقافية.

مشّاء يومي هنري كول في باريس، ها هو من جادة إلى جادّة، ومن متحف إلى آخر، ومن حكمة شعرية إلى حكمة أخرى.. «..الشعر مختلف عن القصّ، الشعر ليس تلك الكذبة التي تروي الحقيقة، على القصيدة أن تحترق بلهب البحث عن الحقيقة، وتكون سيمفونية لغوية صغيرة أيضاً..».

ذات يوم صادف هنري كول خمسة عشر جواداً وهو يتمشى على الجادّة في ضوء الشمس البارد، ولكن منظراً كهذا لا يمرّ سدى على يقظة شاعر في مثل حساسية رجل «يتذوق» باريس، أنه هنا يحوّل الخمسة عشر جواداً إلى ما سمّاه = عضلة شعرية = يقول: «..بَدَتْ لي الجياد أو كتيبة الجياد مثل عضلة شعرية تمرّن نفسها لتبقى قوية، الحركات الدقيقة لكل جواد وخيّاله مثل أبيات قصيدة عبر صفحة بيضاء..»، وذات يوم على الغداء في مطعم فولتير مع صديقه جيمس لورد يشجّعه هذا الأخير على طلب شرائح اللحم رغم ثمنها الباهظ.. «..مُصرّاً على أن الشاعر الحديدي يحتاج إلى اللحم الأحمر من حين إلى آخر..».

يكشف كتاب «باريس الأورفيّة» عن الثقافة التشكيلية الرفيعة لهنري كول، يتوضح ذلك من زياراته العديدة لمتاحف باريس وأروقتها الفنية «اللوفر» مكانه الأثير والرّحب لمعانقة لوحات تاريخية عالمية، لوحات زيتية مشبعة بالنور والظلال واللغة أيضاً.. يقول وهو يتأمل لوحة زيتية لصديقة رسّامة: «يذكرنا خط اليد أن الكلمة المكتوبة في العقيدة الإسلامية، لها الأهمية المركزية، فالقلم والكتاب مبّجلان منذ صفحات القرآن الأولى».

رمزية النحل

توقفت بشغف عميق عند الفصل الذي يتحدث فيه هنري كول عن النحل، الشفاه المدهونة بالعسل، رمزية النحل.. مثلاً.. «..يرمز النحل هنا في فرنسا إلى الخلود، حيث سبق أن كان شعار الملوك، فقد ارتداها نابليون بونابرت مطرّزة على ثيابه الملكية...» وفي مكان آخر يروي قصة شاعر إغريقي قديم هو بيندار الذي لسعته نحلة في فمه عندما كان شاباً فأصبح ذلك تفسيراً لقدرته على نظم الشعر.

ويقول كول: طالما أنه شاعر فهو نحلة عاملة إلى جانب نحلات عاملات أخريات يعملن على تحويل اللغة إلى رحيق.. إلى شعر.

ولكن، لماذا يكتب هنري كول كل هذا؟ الإجابة نأخذها من فمه مباشرة..«..لأنني لا أريد أن أخفي

شيئاً أو أن أكون سرياً، بدلاً من ذلك أريد أن أكشف شيئاً - أساطير يومية، خرافات، ورموزاً... شيئاً قد يبقى في سبات خلف جمال باريس الكثيف».

كان هنري كول يتناول وجبته في مطعم باريسي حينما انتبه إلى رجل يبكي بالقرب منه، ويقول إنه كان شاباً يرتدي بنطالاً من قماش الدنيم، وكان يشرب الكولا مع شريحة ليمون تتمايل في كأسه، ويتساءل كول: «هل كان الشاب يبكي لأنه رأى مستقبله في المرآة، أم هل تعرّض جسده بانتخاب طبيعي غير منصف إلى فيروس عضال أصاب كثيرين..».

عاش الكثير من كتّاب العالم الكبار وفنّانيه في باريس. بيكاسو ترك بلاده ورسم في المدينة السحرية الأورفية. في العام ١٩٠٢ وصل الشاعر الألماني راينر ريلكه إلى باريس، أرنست همنغواي مرّ في هواء المدينة الرقراقة مع الخيوط الفضية في نهر السين، ميلان كونديرا لم يهاجر من تشيكوسلوفاكيا فقط، بل هاجر أيضاً من لغته الأم، وأصبحت باريس أمّه ولغته.. هنري كول يمرّ هو الآخر في الهواء الفرنسي الأورفي.. سياحة أدبية ليست في باريس فقط، بل، في العالم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"