حُكــم الدولار

22:35 مساء
قراءة 4 دقائق

جيم أونيل*

كان النصف الأول من عام 2022 صادماً بحق؛ إذ عانت أسواق الأسهم واحدة من أسوأ فتراتها النصف سنوية على الإطلاق. وشهدت السندات الحكومية تراجعات كبيرة نادرة. كما شهد عالم العملات المشفرة صحوة قاسية توقعها الكثيرون منذ فترة طويلة بعد سبات نسبي هانئ.

ومع ذلك، تجاهل الدولار الأمريكي كل ما سبق وعلا فوق اضطراب الأسواق المالية، بعد أن ارتفعت قيمته مقابل العديد من العملات الأخرى، بما في ذلك اليورو، وهو الآن النسخة الأقوى لما كان عليه منذ 20 عاماً.

من منظور تقييم العملة القياسي، وصل الدولار إلى النقطة التي قد يفكر فيها العديد من المستثمرين بجدية في بيعه. ومن المحتمل أن يكون أعلى بنحو 20% من قيمة معظم العملات الرئيسية مثل اليورو والين، وهذا ببساطة لا يحدث كثيراً.

لكن عليّ الإشارة هنا إلى أن العملات عادة لا تعكس مسارها لأسباب تتعلق بالتقييم فحسب، وبدلاً من ذلك، يتطلب الأمر إجراءات من جانب صانعي السياسة لإحداث الانحدار الفارق في السعر.

لنأخذ على سبيل المثال اتفاقية بلازا لعام 1985؛ حيث وافقت فرنسا وألمانيا الغربية واليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة على التدخل في أسواق العملات لإضعاف الدولار الأمريكي مقابل الفرنك الفرنسي والمارك الألماني والين الياباني والجنيه الإسترليني. أو لنأخذ بعين الاعتبار الانعكاس العلني لوزير الخزانة الأمريكي روبرت روبن عن سياسة الدولار القوي في عام 1998، وقرار السلطات الأمريكية بالتسامح مع انخفاض حاد في قيمة الدولار مقابل اليورو في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. في كل هذه الحالات، تدّخل صنّاع السياسة لهندسة انخفاض الدولار أو المساعدة في ذلك.

قد تبدو القوة الحالية للدولار أمراً مميزاً، بالنظر إلى انقسامات السياسة الأمريكية وبعض القضايا الهيكلية التي تواجه الاقتصاد الأمريكي. من عجز ميزان المدفوعات المتكرر، والعجز في الحساب الجاري، والموقف العدواني ضد كبار مالكي احتياطيات النقد الأجنبي، مروراً بالحروب الثقافية والاجتماعية المرتبطة بحيازة الأسلحة النارية والإجهاض، والقائمة تطول لإبقاء المجتمع الأمريكي في نقطة الغليان.

ولكن الآن بعد أن شدد بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السياسة النقدية في محاولة لكبح جماح التضخم، يبدو أن المستثمرين يفضلون مرة أخرى الدولار ملاذاً آمناً لهم. من الناحية النظرية، من المفترض أن يؤدي ارتفاع التضخم في بلد ما إلى تآكل القوة الشرائية لعملتها. ولكن في ظل ظروف اليوم، كما هو الحال في العديد من الفترات الأخرى التي مررت بها خلال عملي كمحلل عملات، فإن الأسواق لديها خيار إما المراهنة على الفيدرالي الأمريكي للسيطرة على التضخم أو الاستثمار في مكان آخر في عالم غير مؤكد. وبالنسبة لمعظم الناس، الخيار واضح لا شك.

على الرغم من المغالاة في تقييم الدولار حالياً، فإن قوته قد تزداد ما لم تظهر بعض الرياح العكسية الجديدة. فماذا يمكن أن تكون؟ أولاً، والأكثر وضوحاً، يمكن لمجلس الاحتياطي الفيدرالي أن يُقر أنه أخطأ في الأمور ويبدأ فجأة في تخفيف موقفه السياسي مرة أخرى. قد تبدو مثل هذه الخطوة غير محتملة. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن سوق السندات الأمريكية يشهد انعكاساً دراماتيكياً، وأن سوق المال الأمريكي بدأ الآن في التسعير للعام المقبل بناء على تخفيضات أسعار الفائدة الفيدرالية (من مستويات أعلى مما هي عليه اليوم). كما قال لي مدير أحد الصناديق الناجحة ذات مرة، «إذا كان هناك شيء واحد يمكنك التأكد منه مع الاحتياطي الفيدرالي، فهو أنه سيغير وجهات نظره في مرحلة ما».

والاحتمال الثاني هو أن تبدأ البنوك المركزية الرئيسية الأخرى في التفوق على الاحتياطي الفيدرالي بتشديد سياستها الخاصة، كما حدث خلال فترات انخفاض الدولار السابقة. ولكن بالنظر إلى حالة معظم الاقتصادات الأخرى، يبدو هذا السيناريو غير مرجح.

كما أن أحد أسباب استمرار هيمنة الدولار على الرغم مما يحدث في الولايات المتحدة والعالم هو أنه لا توجد بدائل استراتيجية مهمة. فاليورو، على سبيل المثال، يعاني مشكلات متكررة باستمرار ناجمة عن تركيبة الدول الأعضاء فيه، ناهيك عن عدم وجود سند باليورو واحد يشمل الاتحاد بأكمله.

قد يجادل البعض بأن اليوان الصيني يمثل بديلاً معقولاً. ولكن إلى أن تشجع الصين استخدام عملتها على نطاق واسع وتسمح لهذا الاستخدام أن يكون سائلاً ومجانياً، لا يمكن أن يشكل اليوان تهديداً رئيسياً لهيمنة الدولار. وفي السياق ذاته، نعم، لربما ناقشت دول البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) في مؤتمرها السنوي هذا العام إمكانية تعزيز استخدام عملاتها على نطاق أوسع، لكنه حديث سبق وسمعناه من قبل، ولا يوجد سبب وجيه واحد للاعتقاد بأن مثل هذه الطموحات النبيلة ستتحقق في أي وقت قريب.

تاريخياً، تبدأ قوة الدولار في الانعكاس عادة عندما يعلن وزير الخزانة الأمريكي أن العملة قوية جداً ويثير احتمال تدخل الولايات المتحدة في السوق لإضعافها. وليس لدي أدنى شك في أن هذا يمكن أن يحدث مرة أخرى في ظل قيادة جانيت يلين، على الرغم من ذلك، وإلى أن يكون هناك المزيد من الأدلة على انخفاض توقعات التضخم، فإنه من المبكر بعض الشيء القيام بمثل هذه الخطوة.

على أي حال، أظن أن أولئك الذين قرروا بيع مقتنياتهم من الدولار اليوم سيكونون سعداء بهذا القرار في غضون عامين. لكني أنصحهم بعدم متابعة أداء سوق العملات دقيقة بدقيقة في الأيام التي تلي خطوتهم تلك. ففي هذا الطريق لا يكمن سوى القلق والتخمين.

 *الرئيس السابق لشركة «جولدمان ساكس» لإدارة الأصول، ووزير الخزانة البريطاني السابق*بروجيكت سنديكيت

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

الرئيس السابق لشركة «جولدمان ساكس» لإدارة الأصول، ووزير الخزانة البريطاني السابق

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"