الذكاء الاصطناعي.. داءٌ أم دواء؟

22:14 مساء
قراءة 4 دقائق

لا يكاد يمر أسبوع إلا ونشهد تحذيرات مصدرها العديد من رواد الذكاء الاصطناعي تخص التكنولوجيا والتطبيقات الذكية والروبوتات التي أدخلوها إلى العالم، وقد خبرت نوعاً من هذا الإجماع التشاؤمي الناشئ قبل شهرين، عندما التقيت بعض خبراء هذا الذكاء، الذين قالوا إن الخطر يتهدد ملايين الوظائف المتطورة نسبياً وذات الأجور المرتفعة، فهل لهذه النظرة القاتمة ما يبررها حقاً؟

منذ بداية حياتي المهنية في الثمانينيات، والتقدم التكنولوجي يُنظر إليه باستمرار على أنه تهديد كبير للوظائف في الصناعات الرئيسية كتصنيع السيارات. مع ذلك، وحتى كارثة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كانت المملكة المتحدة تنتج سيارات أكثر مما أنتجته في ذروة صناعة السيارات المفترضة، بسبب دور التقنيات الجديدة المتطورة في تعزيز الأعمال الأساسية للمنتجين الرائدين. وفي مدينة سندرلاند الساحلية بشمال إنجلترا على سبيل المثال، تدير نيسان حالياً أحد أكثر مصانع السيارات إنتاجية في العالم.

ورغم حصول عمال قطاع السيارات الألمان على أجور رمزية عالية نسبياً، تمكنت الشركات العاملة في البلاد من التكيف والازدهار لعقود من الزمن، والتنافس عالمياً والمساعدة في تلبية طلب الطبقة الوسطى العالمي المتزايد على السيارات عالية الجودة. نعم، تواجه شركات السيارات الألمانية أكبر تحدٍّ لها حتى الآن مع التحول العالمي إلى السيارات الكهربائية، والتباطؤ في الصين يعني ضعف النمو على المدى القصير، ولكن إذا كان الماضي دليلاً، فإن الصناعة قادرة على الصمود والنهوض بشكل أقوى في المستقبل.

صحيح أن الهجرة تقدّم حلاً جزئياً، إلا أنها قضية سياسية شائكة ومشحونة بشكل متزايد. وعليه، يمكن أن تكون تطبيقات الذكاء الاصطناعي الداعمة للإنتاجية هي الحل المطلوب

ويتجاهل متشائمو الذكاء الاصطناعي أيضاً حقيقة أن السكان يشيخون بسرعة في معظم أنحاء العالم المتقدم والعديد من الاقتصادات النامية والصاعدة الرئيسية. ومع تباطؤ نمو القوى العاملة، سيكون هناك المزيد والمزيد من الضغط على السكان الأصغر سناً في سن العمل لتمويل المعاشات التقاعدية والرعاية الصحية والالتزامات الاعتيادية الأخرى.

وإلى أن يصبح هذا العدد الصغير من السكان العاملين أكثر إنتاجية، فإن النمو الاقتصادي سيعاني بلا شك. واليابان وإيطاليا مثالان بارزان على هذا الاتجاه خلال العقود القليلة الماضية، لكنهما ليستا الوحيدتين. فمن بين دول أخرى، تتواجد الصين وكوريا الجنوبية ومعظم دول أوروبا في نفس المركب. هنا للحفاظ على سوية النمو والانتعاش خصوصاً بعد جائحة «كورونا».

في شق متصل، إذا ما ألقينا نظرة على الحاصل في أروقة قطاع الصحة الوطني البريطاني، والذي يلتهم المزيد من الموارد المالية للبلاد منذ سنين، نجد أن القطاع يوظف عدداً أكبر من الأشخاص من أي وقت مضى، ومع ذلك أصبح أقل إنتاجية بالتقادم. ونحن في المملكة المتحدة نتعرض لحوادث مأساوية لا نهاية لها بسبب إخفاقات الأنظمة الصحية المستمرة، وما يعنيه ذلك للمواطنين الذين يسعون للحصول على الرعاية.

وبعد التعمق في هذه المشكلة، وبصفتي عضواً في «لجنة صحة التايمز»، من الواضح أن قطاع الصحة الوطني في المملكة المتحدة بحاجة إلى رفد كبير من أنظمة التكنولوجيا الحديثة لمساعدته في إتمام المهام البسيطة والأكثر تعقيداً. وعلى سبيل المثال، يمكن أن يساعد تضمين التشخيصات عالية السرعة المعززة بالذكاء الاصطناعي عبر النظام في اكتشاف مخاطر المرض وتوفير علاج مبكر، ويفضل أن يكون ذلك من خلال الصيدليات أو الممارسين العامين. فمن شأن مثل هذه التدخلات أن تحسن الإنتاجية بشكل كبير وترفع من جودة الرعاية الصحية عموماً.

ولدينا بالفعل أدلة كثيرة ومهمة للغاية على ما يمكن أن يقدمه الذكاء الاصطناعي لأنظمة الصحة العامة على مستوى العالم. من بينها، قصة نشرتها «بي بي سي» في 25 مايو/أيار، عندما استخدمت مجموعة من العلماء في كندا والولايات المتحدة تقنيات الذكاء الاصطناعي لاكتشاف مضاد حيوي جديد أثبت فاعليته ضد أحد أنواع الجراثيم المقاومة للمضادات الميكروبية المدرجة على قائمة المراقبة الخاصة بمنظمة الصحة العالمية. وبعد أن ترأست المراجعة المستقلة للمملكة المتحدة حول مقاومة مضادات الميكروبات من 2014 إلى 2016، فإن هذا التطور يُعد مشجعاً بشكل لافت للغاية.

ومع ذلك، لا يزال يتعين على الدواء الخضوع للتجارب السريرية المعتادة، وهي عملية طويلة ومكلفة. ولكن إذا سارت الأمور على ما يرام، فستكون هي المرة الأولى منذ عقود التي نحصل فيها على مضاد حيوي فعال حقاً لاستخدامه ضد الجراثيم القاتلة. بالتالي لك أن تتخيل الآن ما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي في مجال الطب، من المساعدة على اكتشاف أو تطوير لقاحات للأمراض المزمنة التي لم يكن من الممكن الوقاية منها، مروراً بتبسيط عمليات التجارب السريرية على نطاق أوسع.

بالمقابل، فإن لخبراء الذكاء الاصطناعي والمشككين على حد سواء الحق بكل تأكيد في المطالبة بوجود ضوابط حماية ومعايير تنظيمية عالية، خشية أن تتسبّب هذه الموجة الأخيرة من الابتكار بإحداث فوضى اجتماعية وسياسية واقتصادية وطبية عارمة. فالعصر الحالي الذي نعيشه، في ظل منصات التواصل الاجتماعي على مدار الساعة، والنقرات التي تحمل أخباراً صحيحة ومزيفة، يجعل الكثير من التشاؤم مفهوماً. لكن مع ذلك، لن يكون مبرراً ومنطقياً تجاهل الفوائد المحتملة الواضحة والهائلة للذكاء الاصطناعي.

* بروجيكت سيندكيت

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3ck5duwc

عن الكاتب

الرئيس السابق لشركة «جولدمان ساكس» لإدارة الأصول، ووزير الخزانة البريطاني السابق

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"