عادي
لوحة ألهمت الشعراء

«الثالث من مايو»... الفن قصيدة تمجد المقاومة

19:14 مساء
قراءة 4 دقائق
فرانشيسكو دي جويا

الشارقة: علاء الدين محمود

يحمل الفنان الإسباني فرانشيسكو دي جويا «1746، 1828»، موقفاً ورؤية إبداعية مختلفة، وتقاليد فنية رفيعة المستوى، فهو رسام عمل عبر أعماله الفنية برصد وعكس الواقع في زمانه، والاضطرابات السياسية والاجتماعية، وتتضمن لوحاته صوراً لطبقة النبلاء الإسبانية وأحداثاً تاريخية شهيرة تناولها بعمق وتأمل شديدين، وقد ولد لأبوين من الفلاحين البسطاء، فعمل معهما في الحقل هو وإخوته كسائر الفلاحين، ومع هذا فقد ظهرت مواهبه الفنية في وقت مبكر، فكان يرسم بالفحم المتبقي من فروع الأشجار المحترقة على الحوائط والأحجار.

تدرب جويا على يد رسام سرقسطة خوسيه لوسان إي مارتينيس، في سن الرابعة عشرة، وقد ذكر جويا هذا في سيرة ذاتية قصيرة حيث بَقي معه لمدة أربع سنوات وظلت رسوماته متأثرة بأسلوب أستاذه حتى ذهب إلى روما، وفي العام 1778 قام رسام البلاط الملكي بالسماح لجويا بأن يأتي للقصر الملكي، حيث بدأ دراسة لوحات الفنان الإسباني فيلاثكيث، ومعها بدأت تتضح معالم فنان شهير حيث تم بعدها تعيينه رساماً للملك، وهذه هي أكثر المكانات المرموقة التي يمكن أن يحظى بها رسام في إسبانيا، ليصبح صاحب مكانة فنية مرموقة في العالم حتى حمل لقب «أبو الفن الحديث»، حيث أثرت أعماله إلى حدٍ كبير في الجيل الأخير من الفنانين خلال القرن العشرين، وخاصة بابلو بيكاسو، وبول سيزان، وإدوارد مانيه.

*بطولة

تعتبر لوحة «الثالث من مايو»، أو «الثالث من مايو 1808 في مدريد»، والمعروفة أيضاً باسم «الإعدام رمياً بالرصاص»، من أشهر أعمال جويا وأبرز اللوحات العالمية فقد اعتبرت أيقونة فنية، وهي تنتمي لطريقة الفنان الذي برع في أن يجعل صوره إبداعاتٍ لافتة من نوعها وتميز بطريقة رؤيته الأشياء ورسمها على قماش، دون تجميلٍ مصطنع للشخصيات التي يرسمها، كما أن اللوحة تنتمي كذلك إلى رؤية جويا وفلسفته وتمجيده للبطولة وقيمها الرفيعة وأثرها في الناس العاديين، فمن شأن البطولات أن تسرب روح الشجاعة والإحساس بالفخر في أوساطهم، كما أن اللوحة عبرت عن مرحلة مزدهرة من حياة الفنان الذي عانى الاضطرابات النفسية في أواخر سنوات عمره حيث سيطرت الكآبة على أعمال تلك الفترة.

*مشهدية مؤثرة

أكمل جويا رسم هذه اللوحة في عام 1814، وعبرها استطاع خلق مشهدية مؤثرة حول الأحداث التي جرت في ميدان «مونكلوا»، والذي يعتبر من الميادين الإسبانية الشهيرة التي شهدت قسوة الاحتلال الفرنسي، وكانت ضمن الأعمال الفنية الشاهدة على انتصار الوطن على الأعداء حيث يدور موضوعها حول تلك المعاني، الأمر الذي مكن جويا من تقديم إبداع يخاطب الوجدان ويؤثر فيه، وقد برع جويا في رسم اللوحة بعد 6 أعوام من الاحتلال الفرنسي لبلاده بقيادة نابليون الذي فرض سيطرته على إسبانيا بقوة تتكون من مئة ألف جندي، وقام بذبح كل من يقف أمام جيشه فخرج الشعب ثائراً على قوات نابليون ورافضاً لتحالف إسبانيا مع قوات الجيش الفرنسي، وقد قصد جويا من وراء هذا العمل إحياء ذكرى المقاومين الإسبان الذين ناضلوا ضد جيش نابليون.

*أسلوب

وجدت اللوحة اهتماماً كبيراً من قبل النقاد والمؤرخين الفنيين، فأسلوب جويا في رسمها جاء مختلفاً، فقد ابتعد عن تصوير الحرب بالصورة الكلاسيكية، ونجح في تحطيم القوالب التقليدية، واعتبر العمل من الأمثلة المعبرة في الفن الحديث، وقد تحدث عنها الفنان التاريخي كينيث كلارك قائلاً: «يمكن أن تعد أول لوحة كبيرة للثورة مع مفهومها الحقيقي للمحتوى والموضع والأسلوب»، كما تناولها العديد من الفنانين الذين تأثروا بأسلوب جويا كثيراً والذي أصبح مدرسة للفن في أوروبا، وعلى الرغم من تلك الضجة الكبيرة التي أحدثتها اللوحة إلا أن البعض من النقاد والمؤرخين، قد أشار إلى أنها أقل من قامة جويا على نحو ما فعل مدير متحف ديل برادو الرسام جوش دي مادروثو مادروث عام 1850 والذي أشار إلى أن أسلوب جويا لم ينعكس على لوحته، وعلى الرغم من ذلك فإن العمل وجد شهرة كبيرة في أوساط المدرستين الرومانسية والانطباعية، وقد لفت الكثيرون إلى أن جويا استطاع عبر ضربات الفرشاة تخليد ثورة ضد رجال نابليون المتسلطين.

*وصف

إلى جانب هذه اللوحة «الثالث من مايو»، رسم جويا عدداً من الأعمال الفنية الأخرى ومنها لوحة «الثاني من مايو»، وجميعها تصور بطولة مواطنيه في مواجهة العدو، وفي مشهدية اللوحة نجد مجموعتين من البشر فهنالك الأسرى الذين اصطفوا بطريقة متفرقة في مواجهة جنود فرقة الإعدام، ويغلب على اللوحة اللون الداكن الذي برع الفنان في توظيفه بدرجات مختلفة حسب الحالات الوجدانية، وقد ذكر الفنان كنيس كلارك، أن اللوحة أبرزت التضاد بين الضحايا من جهة وفرقة الإعدام الذين يوجهون بنادقهم نحو صدور المقاومين، حيث يبرز واحد من هؤلاء الثوار وهو يرفع يديه بطريقة تدل على البطولة، بينما البقية يقتربون من بعضهم في مشهد أقرب إلى العناق، في ما يظهر على يمين اللوحة عدد من الضحايا الآخرين وحشد من البشر يرجون الرحمة للذين توجه إليهم البنادق، وعلى الأرض توجد جثث لأبطال قضوا نحبهم، ولئن غلب السواد على مشهد اللوحة، فإن جويا استخدم الإضاءة القادمة من الفنار التي أضاءت مشهد الطرف الأيسر من اللوحة.

*مصباح

اللوحة موجودة الآن في متحف برادو في برلين، وقد ألهمت العديد من الجمهور والفنانين والشعراء ومنهم الشاعر الإسباني مانويل ماتشادو وهو أخو الشاعر الإسباني الكبير أنطونيو ماتشادو، والذي يصف عوالم اللوحة في قصيدة شهيرة تقول: على الأرض مصباح لا يكاد يضيء/ نوره الأصفر ينشر الرعب / صفّ البنادق الموجهة في وحشية ورتابة / لا تكاد العين تراه / نواح، لعنات. قبل صدور الأمر بإطلاق النار / الضحايا المقدمون للموت، تثور نفوسهم غضباً / رموش عيونهم مفتوحة على اتساعها / لحمهم الأبدي يناول الأرض التحية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4fduaess

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"