عادي
زاد القلوب

الحب.. دليل الروح إلى الطريق المستقيم

20:52 مساء
قراءة 5 دقائق
لوحة الخطاط حامد الآمدي.

الشارقة: علاء الدين محمود

«الحب يوجب شوقاً، والشوق يوجب أنساً، فمن فقد الشوق والأنس، فليعلم أنه غير محب».

أبوبكر الواسطي

هكذا تحدث أبو بكر محمد بن موسى الواسطي، المتوفى في عام 320 هـ، والذي اشتهر بلقب «ابن الفرغاني»، وهو من علماء أهل السنة والجماعة، ومن أعلام التصوف في القرن الرابع الهجري، وعرف عنه أنه لم يغال في تصوفه، ولم يخرج عن التقاليد الصوفية القديمة، حيث لم يكن من أهل الشطح والتحريف والبدع، بل تمسك بالسنة وبالطريق، فصار كما قال عنه أبو عبد الرحمن السلمي: «من علماء مشايخ القوم من الصوفية، لم يتكلم أحد في التصوف مثل ما تكلم هو، وكان عالماً بالأصول، وعلوم الظاهر»، أو كما قال عنه أبو نعيم الأصبهاني: «هو عالم بالأصول والفروع، ألفاظه بديعة، وإشاراته رفيعة»، وأيضاً وصفه الذهبي بقوله: «هو الإمام الحافظ الكبير، محدث العراق، وأحد أئمة هذا الشأن ببغداد، جمع وصنف، وعمّر وتفرد»، وكذلك تحدث الخطيب البغدادي عن اهتمام الواسطي بشأن الحديث النبوي الشريف وروايته له، فقال: «كان الواسطي كثير الحديث، رحل فيه إلى الأمصار البعيدة، وعني به العناية العظيمة، وأخذ عن الحفاظ والأئمة، وسكن بغداد، وحدث بها، وكان حافظاً فهماً عارفاً، بلغني أن عامة ما حدث به كان يرويه من حفظه»، وقد تلقى الواسطي العلم من أئمة كبار أمثال: علي بن المديني، وشيبان بن فروخ، وأبو بكر بن أبي شيبة، وهشام بن عمار، وسويد بن سعيد، والصلت بن مسعود الجحدري، أما من مرافقيه في رحلة طريق الزاهدين السالكين، فكان الجنيد البغدادي، وأبي الحسين النوري، وأصل الواسطي هو خراسان من بلدة «فرغانة»، لكنه استوطن «كورة مرو»، حيث توفى فيها.

وعبارة الواسطي تتحدث عن أحوال أهل المحبة الصادقة، الذين هم في شوق دائم إلى ملاقاة ربهم، وقربهم منه، وللمحب الحقيقي علامات ودلالات، حيث إن المحبة يتبعها الشوق الذي بدوره يوجب الأنس، ويقصد أن المؤمن يكون في مناجاة لربه بدعائه وتلاوته للقرآن الكريم الذي هو ربيع القلوب، فمن فرغ قلبه من الشوق، وعبادته من النجوى، فهو ليس بالمحب الحقيقي، والمقولة هي نتاج تجربة الواسطي في التعبّد والسير في طريق الصلاح، فقد هيأ روحه ونفسه لذلك الدرب الصعب، وأصلح قلبه وعقله في سبيل تقبّل المدد والأنوار والأسرار والمعارف، فكان أن زهد في مطامع الحياة ومغرياتها ومتاعها، فعاش فقيراً إلى الله تعالى، ولئن كان تهذيب النفس يتطلب البعد عما لا يرضى عنه رب العالمين، فقد ابتعد عن المعاصي التي تفسد العمل، مهما كانت درجة صلاحه، واختار أن يقبل على طريق الله عز وجل، مبتهجاً مسروراً بذلك الخيار، فقد رضيت روحه، وتدبّر عقله معاني الإيمان، فكان أن اختار في أمر دينه الاعتدال، فخير الأمور أوسطها، وقد ذكره العطار في تذكرة الأولياء، فقال عنه: «كان أكمل المشايخ في عهده، وشيخ الشيوخ في وقته، وكان عالماً كبيراً، ولم ير في المشايخ أكبر منه همّة، وفي الحقائق والمعارف سابقاً على الأصحاب، وفي التجريد والتفريد مقدماً عليهم، وكان محموداً في خصاله، مقبولاً عند أرباب القلوب وأصحاب المكاشفات».

*إشراقات

والمقولة تدعو المسلم للإقبال على طريق المحبة، حيث الفيوضات والإشراقات والجمال والخير والأنوار، وهي متعة لا يشعر بها إلا من صفت نفسه، وغمر الحب قلبه، فكان من الذين اختاروا طريق السالكين الذين يرجون القرب من الله تعالى، حيث أإن ما عند الله هو خير وأبقى، وأن المسلم الحق يعلم أنه ما خلق في هذه الحياة الدنيا إلا للعبادة، وليعمر الأرض بالصلاح والخير، وهذا الطريق الذي يسلكه الزاهد هو محاط بالصعوبات والمنغصات، لكن المسلم الحقيقي يعلم أنها اختبارات وابتلاءات من أجل أن يقترب، لا أن يكتئب، فيصبح ذلك الدرب، رغم قساوته، جنة تفيض جمالاً، لأنها تجعله من المقربين، ومن المعروف عن الواسطي أنه كان يقسم السالكين إلى ثلاث طبقات، حيث إن أصحاب اﻟﻄﺒﻘﺔ الأوﻟﻰ، هم من ﻣَﻦَّ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺑأﻧﻮﺍﺭ ﺍﻟﻬﺪﺍﻳﺔ، ﻣﻌﺼﻮﻣﻮﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﻜﻔﺮ ﻭﺍﻟﺸﺮﻙ ﻭﺍﻟﻨﻔﺎﻕ، بينما أهل ﺍﻟﻄﺒﻘﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ، هم من ﻣَﻦّ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺑأﻧﻮﺍﺭ ﺍﻟﻌﻨﺎﻳﺔ، ﻣﻌﺼﻮﻣﻮﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﻐﺎﺋﺮ ﻭﺍﻟﻜﺒﺎﺋﺮ، أما أصحاب ﺍﻟﻄﺒﻘﺔ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ، فهم من ﻣَﻦَّ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺑﺎﻟﻜﻔﺎﻳﺔ، وهم ﻣﻌﺼﻮﻣﻮﻥ ﻋﻦ ﺍﻟﺨﻮﺍﻃﺮ ﺍﻟﻔﺎﺳﺪﺓ، ﻭﺣﺮﻛﺎﺕ أﻫﻞ ﺍﻟﻐﻔﻠﺔ.

والعبارة هي آية في البهاء والألق وتحدّث المؤمن الذي يريد السير في طريق الله تعالى عن تلك العوالم التي لا تنفتح مغاليقها، ولا تحصد أسرارها، ولا تدرك أنوارها، ولا تتنزل معارفها، إلا لمن أتى الله بقلب محب، وبنفس طيّبة راضية زاهدة، فهي عوالم يكون فيها مقام التجلي بقدر العطاء في المحبة، فإذا وصل المرء إلى مثل ذلك المقام وبلغه، فهو بلا شك في عيشة راضية، وروح وريحان، فهو في تلك الحال يصبح من الذين عرفوا أسرار الحقائق ومعانيها، ومن الذين أدركوا أن لا سبيل إلى رضا الله والقرب منه إلا بمحبته التي هي أساس كل شيء، وذلك ما أدركه الواسطي الذي تحدث في هذه المقولة وغيرها من الحكم الباذخة، بسلطان المعرفة والحق، وذلك ما جعل الكثير من العلماء يذكرون أن لا أحد قد تكلم في التصوف مثل ما فعل، فقد نال من المقامات أرفعها بما قدم من المحبة والإيمان والزهد، فكان من السالكين الذين يقبلون على ما عند الله تعالى، وهم فرحون مستبشرون، يرجون الرضا والقبول والأنوار.

*بساطة

والعبارة التي اتسعت معانيها ومقاصدها، تنتمي إلى طريقة وأسلوبية الواسطي المختلفة، الذي عرف واشتهر بمقدراته الخطابية الكبيرة، حيث عُرفت عنه براعته في مخاطبة الجمع من الناس بحسب مقاماتهم، فكان حديثه للعامة مباشراً لا يخالطه بما لا يتيسر فهمه، أما حديثه للخاصة من القوم، فكان يميل فيه إلى بعض الغموض حتى يختبر أفهامهم، وكان في جميع أحواله تلك يدعو الناس إلى محبة الله تعالى، والسير في طريق الهدى والصلاح والزهد، وأن يتركوا سبيل الطمع والتسابق نحو اقتناء الأموال ومغريات الدنيا، حيث كان الواسطي يؤمن بأن المحبة هي التي من شأنها أن تهذب النفوس وتبعدها عن المعاصي والمطامع، وتقربها من الطريق المستقيم، ومن أشهر أقواله في هذا الجانب: «لا تطلب شيئاً هو في طلبك؛ أي الجنة، ولا تفر عن شيء هو يفر عنك؛ أي جهنم، ولكن اجتهد حتى تكون لله تعالى، فإذا كنت له هو أيضاً يكون لك، وحينئذ ترى الأشياء كلها متوجهة إليك، خادمة لك».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/39jmb2xz

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"