عادي
زاد القلوب

«العمل الصالح».. سبيل المؤمن الصادق

01:03 صباحا
قراءة 4 دقائق

الشارقة: علاء الدين محمود

«إذا أراد الله بعبدٍ خيراً فتح عليه باب العملِ، وأغلق عنه باب الجَدل. وإذا أراد الله بعبدٍ شراً، أغلق عنه باب العملِ، وفَتح عليهِ باب الجَدلِ».
تلك الكلمات التي تفيض حكمة هي ل«أبو محفوظ»، معروف بن فيروز الكرخي، المتوفي سنة 200 ه الموافق 815 م، وهو أحد علماء أهل السنة والجماعة، ومن جملة المشايخ المشهورين بالزهد والورع والتقوى، وصفه الذهبي ب «علم الزهاد بركة العصر» صحب داود الطائي، وسكن بغداد.

وتلك المقولة، تنتمي تماماً إلى منهج الكرخي، فهو يدعو فيها للإقبال على العمل، وترك الجدل، وبطبيعة الحال المقصود من الجدل في هذه الموعظة هو الثرثرة والاهتمام بالقول أكثر من أن ينصرف الإنسان نحو الطاعات والعمل الصالح الذي يرفع من مكانته عند ربه، وكان ذلك هو ديدن الكرخي الذي اتجه نحو العبادة وانصرف إلى الله تعالى بكل جوارحه، حتى أن الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله، رد على أحد الحاضرين في مجلسه، ذلك الذي وصف الكرخي بأنه قليل العلم، فكان أن قال له ابن حنبل: «أمسك، وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف»، وذلك القول بطبيعة الحال يشير إلى أن الكرخي كان من أهل العلم، ولكنه رغم ذلك فضل العمل وأغلق باب الجدل، فكان أن وصل إلى مكانة كبيرة بين الناس والعلماء؛ حيث أحبه العامة والخاصة، وقد روي عن سفيان بن عيينة أنه قد قال لبعض أهل العراق، ما فعل ذلك الحَبر الذي فيكم ببغداد، فقالوا من هو؟، قال أبو محفوظ معروف الكرخي، فقالوا: خيراً، فقال لهم: لا يزال أهل تلك المدينة بخير ما بقي فيهم.

تقوى

إن الإقبال على العمل هو زاد المؤمن السالك، وهو الفعل الذي يجعل التقوى تتسرب إلى قلب المسلم، وقد كان الكرخي من الأتقياء الذين يحرصون على التدبر والتأمل والمعرفة، وكان يحث جلساءه على معرفة الله حتى يتّقوه حق تقاته، ويقول في هذا الشأن مما يروى عنه: «كيف تتقي وأنت لا تدري ما تتقي؟»، وكان يقول أيضاً في نفس السياق: «إذا كنت لا تحسن أن تتقي الله، أكلتَ الربا، ولقيت المرأة فلم تغُضَّ عنها، ووضعت سيفك على عاتقك».

والمقولة كذلك تحث على ترك الجدل، والذي هو نقيض العمل الصالح، والذي لا ينفع المؤمن في الآخرة عندما يلقى رب العالمين، ولعل من أسمى المعاني التي تحملها هذه المقولة هي الصدق مع الله تعالى، فكان الكرخي يقول: «ما أكثر الصالحين وما أقل الصادقين»، كما كان يحث الناس على التواضع لله، والتسليم له بالحول والقوة، فكان يقول: «من كابر الله صرعه، ومن نازعه قمعه، ومن ماكره خدعه، ومن توكل عليه منعه، ومن تواضع له رفعه».

وكذلك فإن الموعظة تدعو للعديد من القيم الفاضلة عن طريق العمل والعبادة وتهذيب النفس وتطهيرها، وقد اشتهر الكرخي بالتصدق والبذل، وقد روي في هذا الجانب عنه أن رجلاً أتاه بعشرة دنانير فأهداها له، فمر عليه سائل فناوله إياها، وكان يقيم الليل عابداً متقرباً من الله تعالى، وكان يقول في هذا الشأن: «قيام الليل نور للمؤمن يوم القيامة يسعى بين يديه ومن خلفه، وصيام النهار يبعد العبد من حر السعير»، وكان رحمه الله مشفقاً على نفسه من خشية الله، ومما يحكى عنه في هذا المجال أنه كان يبكي، ثم يقول يا نفس كم تبكين، أخلصي تُخلصي.

ولعل تلك الموعظة التي ترفع من شأن العمل الصالح، تريد للمؤمن السالك أن يحمل في طريقه إلى ربه زاداً ثقيلاً من الأعمال الصالحات، لذلك كان الكرخي يعمل على تذكير الناس بالموت حتى يحسنوا من أعمالهم، بترك المعاصي، ومما يروى عنه في هذا المقام أنه قد زجر رجلاً اغتاب آخر في مجلسه فقال له واعظاً: «اذكر القطن إذا وضع على عينيك»، حيث ذكره في ذلك القول بالموت.

قصص وحكايات

وعرف عن الكرخي أنه أحد أعلام التصوف في بغداد، واشتهر بأنه يميل نحو التسامح، وفي ذلك المقام تروى الكثير من القصص والحكايات، منها أن الكرخي كان جالساً مع مجموعة من أصحابه ومريديه على نهر دجلة في بغداد، فمرّ عليهم مجموعة من الشباب صغيري السن في زورق، يضربون الملاهي، ويشربون الخمر، فقال له أصحابه: أما ترى هؤلاء في هذه المياه، يعصون الله، فادعُ الله عليهم، فرفع يديه إلى السماء، وقال: «إلهي وسيدي، كما فرحتهم في الدنيا، أسألك أن تفرحهم في الآخرة»، فاستنكر أصحابه ذلك، وقالوا له: إنما قلنا لك: ادعُ عليهم، فقال: «إذا فرَّحهم في الآخرة، تاب عليهم في الدنيا، ولم يُضرَّكم شيء من ذلك».

وهذه الموعظة تحمل الجمال والمعاني السامية، فهي تدعو إلى السير في طريق الله تعالى، في رحلة الألق والمتعة الروحية؛ حيث يلقى فيها المحب الصوفي ما يلقى من فيوضات نورانية، تلك التي تشكل تجربة عظيمة لدى السالكين تنعكس على أقوالهم وأشعارهم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdz9cyfh

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"