عادي

على حدود الحب

23:00 مساء
قراءة 6 دقائق

الشارقة: يوسف أبولوز
يرى د. محمد غنيمي هلال في كتابه «الرومانتيكية» أنه من العسير إعطاء تعريف قصير للمذهب الأدبي «الرومانسية» أو «الرومانتيكية»، بل، يرى أيضاً أنه مذهب أدبي معقد، وعلى أي حال لا بد من تعريف، فيعود د. هلال إلى مفردة أو كلمة: «الرومانسية أو الرومانتيكية» في اللغات: الفرنسية، والإنجليزية، والألمانية، والإسبانية والإيطالية ويقول إن كلمة «رومانسية» في هذه اللغات ترجع إلى أصل فرنسي – قديم.

يقول د.هلال «كانت تدل في العصور الوسطى على قصة من قصص المخاطرات شعراً أو نثراً».. ويضيف د. هلال «منذ العام 1760 كان كثير من مؤرخي الأدب يذكرون كلمة الرومانسية مقابلة لكلمة الكلاسيكي، وانتقلت هذه الصفة إلى اللغة الألمانية، فكان معناها أولاً ما يمت بصلة إلى عالم الفروسية في العصور الوسطى أو يثير ذكراه».

يتتبع د. هلال انتقالات «الرومانسية» ككلمة إلى الفرنسية، والإيطالية، والإسبانية، ويقول: «بقي للكلمة على جانب معناها المذهبي شيء من معناها الاشتقاقي، فكانت تدل على الإنسان الحالم ذي المزاج الشعري، المنطوي على نفسه، ثم امتد معناها إلى ما يشتمل شبوب العاطفة، والاستسلام للمشاعر، والاضطراب النفسي، والفردية، والذاتية، وتمثّلت هذه الاتجاهات في الأدب الرومانتيكي»، وينقل د. هلال عبارة منسوبة إلى فيكتور هيجو، وكما هو معروف هو واحد من أعلام الرومانسية الفرنسية قوله عن الرومانسية: «اسم لا معنى له، فرضه علينا أعداؤنا، وقبلناه في استخفاف..». وربما نفاجأ بشأن ما ذكره د. هلال من تشعّب معاني الرومانسية «حتى قيل إن هناك أنواعاً من الرومانسية بعدد الرومانسيين»، ويذكر د. هلال ما يشير إلى أن «بعض مؤرخي الأدب في العام 1925 احصوا 150 تعريفاً للرومانتيكية ويقول بول فاليري: لابد أن يكون المرء غير متزن العقل إذا حاول تعريف الرومانتيكية «الرومانسية».

متاهة

والسؤال، الآن للخروج من متاهة التعريفات لهذا التيار الأدبي أو المذهب الأدبي هو.. هل يوجد الآن أدب رومانسي أو هل يوجد رومانسيون، ولكي لا أشتّت القارئ أقول سريعاً، وعلى نحو اجتهادي انطباعي: نعم لا يوجد أدب رومانسي بوصفه تياراً أو ظاهرة، ولكن: يوجد رومانسيون، وقبل أن أوضح أو أفصّل هذه الإجابة أو هذه الثنائية أشير إلى كاتبة جزائرية شابة تكتب باسم مستعار هو سارة ريفنز أحدثت، بحسب الشرق الأوسط في إبريل الماضي زلزالاً في سوق الكتب الفرنسية قبل حوالي الشهر، وتبلغ هذه الكاتبة الشابة من العمر 24 عاماً، نشرت رواية بعنوان «الرهينة». عشرة آلاف نسخة من الرواية نفدت في ساعة بحسب التقرير المنشور في الشرق الأوسط، وكانت صاحبة رواية الرهينة قد بدأت الكتابة على منصة «الواتباد» الكندية لنشر الكتب والروايات، ليبلغ عدد القراءات 9 ملايين، وبحسب التقرير أيضاً تتعقّب دار نشر «أشيت» الفرنسية الكاتبة الشابة وعرضت عليها عقداً لنشر نسخة ورقية من الرواية وترجمتها إلى 9 لغات.

أوردت إليك كل هذه المعلومات لألقي إليك بالمفاجأة: أن التقرير يقول إن الرواية تقع ضمن جنس أدبي يحظى بشعبية كبيرة عند القرّاء – الشباب هو «الرومانسية القاتمة» وهي «.. غالباً ما تحمل معاني سوداوية» و«.. تبني هذه القصص حبكاتها حول شخصيات جذّابة لكنها تائهة ومضطربة..»، ولعلّ هذه النتف الانطباعية الأولى حول رواية الشابة الجزائرية التي تكتب الفرنسية تنطبق على شخصيات في الرواية هي بطبيعتها رومانسية،.. ولكن، هل يعني ذلك عودة الرومانسية إلى الأدب من البوابة الفرنسية حيث أصلاً ظهرت الرومانسية في القارة الأوروبية في القرن الثامن عشر؟ هل يعني ذلك عودة الرومانسية من بوابة الكتابة الشبابية على منصات إلكترونية متخصصة في فن الرواية؟ بالطبع الإجابة لا، فما رواية «الرهينة» سوى حالة فردية لا تكتمل ولا يمكن أن تكتمل بالشروط التقليدية لمصطلح الرومانسية، فضلاً عن المزاج الثقافي الحداثي وما بعد الحداثي في الغرب عموماً الذي استولد الرومانسية وهو من دفنها أو وأدها في أقل من 100 عام منذ ظهورها، وحتى غيابها القسري أما الحداثة فقد بدأت بواكيرها في النصف الأول من القرن العشرين.

نشر في اللوموند الفرنسية مقال «توبيخي» إن جازت العبارة لقارئ روايات من هذا النوع: «رهينات الرومانسية السوداء»، فما زالت اللغة النقدية الغربية التي أسقطت «غنائية» الرومانسية قائمة إلى اليوم حين تربط هذه اللغة بين «السوداوية»، و«الرومانسية».

لكن في حقيقة الأمر فإن الرومانسية ليست سوداوية، إنها في الجوهر انقلاب على الروح الاغريقية والرومانية الكلاسيكية التي كانت سائدة في الرواية والشعر.

بيئة

أراد الرومانسيون التخلص من سلطة العقل الثقافي والأدبي ليس في الأدب فقط، بل، وفي الفلسفة أنها تقويض للكلاسيكية بمعناها «السلفي» أو «البطريركي» إذا أردنا استعمال المصطلحات «المضادة» المعاصرة، الرومانسية أيضاً انتقال إلى الطبيعة «جان جاك روسو»، وهي تاريخ وجداني، إذا جازت العبارة للضعف البشري، والرومانسية تاريخ أيضاً للدموع، بخاصة هنا، الدمع العربي: إبراهيم ناجي، جبران، المنفلوطي، علي محمود طه.. وآخرون رومانسيون كثر من الملاحظ أنهم ظهروا على نحو لافت في بلاد الشام ومصر، فهل ثمة من صلة بين المكان، والمذهب أو التيار أو الظاهرة الثقافية والأدبية؟ هل ظهرت الرومانسية أول ما ظهرت في فرنسا لأنها من حيث الجغرافيا والمكان رومانسية أكثر من باقي البلدان الأوروبية؟ أم أن مجموعة عوامل موضوعية، وثقافية، ومكانية، ونفسية تلتقي معاً ويصدر عنها ظاهرة أو حالة أو مرحلة أدبية أو شعرية أو روائية؟

هناك، دائماً، ظروف وبيئة ومنظومة شروط وعناصر لظهور ظاهرة أو تيار أو مدرسة أو حتى مصطلح ونظرية وفكر والظروف التي أنتجت الرومانسية قبل مئات من السنوات ليست هي ظروف اليوم، أو ليست ظروف القرن الحادي والعشرين.

إن عودة الرومانسية في الرواية والشعر بلغة وأساليب وهوية القرن السابع عشر أو الثامن عشر الأدبية هي أمر مستحيل، بعد طريق طويل معبد بنظريات ومصطلحات في الحداثة وما بعد الحداثة، أزاحت ما هو أكثر صلابة من الرومانسية وهي الكلاسيكات الكبرى في الأدب والفن بعامة وبعدها أو معها أي مع هذه التحولات انتقل الشعر مثلاً، وأقصد الشعر العربي إلى أرض بلا حدود إن جازت العبارة، وأقصد بها أرض القصيدة المتحررة من الوزن، والبحر الخليلي الكلاسيكي.

لقد كانت رومانسية الشابي أو صالح جودت، أو ميخائيل نعيمة، بل، وحتى رومانسية أحمد شوقي، والجواهري، والبردوني، وأبو ريشة إذا أردنا أن «نحفر» جيداً عن شرايينهم الرومانسية تلك.. أقول إن رومانسية شعراء تلك المرحلة كانت تعتمد على حوامل فنية لا بد منها وهي العمود الخليلي.

نعم.. إن العمود الخليلي في الشعر العربي مرادف فوري لما هو رومانسي، وما كان يمكن لإبراهيم ناجي، أو سعيد عقل، أو خليل مطران أن يكتبوا شعراً رومانسياً من دون حامل عروضي، خليلي، عمودي يحقق شرعية هذه الرومانسية؟ ولكن هذه الشرعية اختفت كلياً الآن، كما أن العمود الخليلي الذي يؤكد على الهوية الرومانسية للنص قد أزيح هو الآخر. هذا العمود الشعري أزيح لكنه لم ينكسر، لكن مع إزاحته هذه كانت الرومانسية قد لفظت أنفاسها، أو لم تعد هناك من حاجة إليها.

رموز

لم يعد الشاعر الآن بحاجة إلى قوارير عطور، وصندوق موسيقى، وورق ملون وهو يكتب قصيدته بل، الأرجح أنه يكتب في مقهى على رصيف، أو وهو يقاتل على جبهة حرب، بل، الأغلب أنه يكتب قصيدته على الواتس أب متخلياً كلياً عن رمزيات الرومانسية: القلم، والورقة، والحبر، والوردة الموضوعة في كأس أمامه لكي يستدرج الوحي.

لم يعد الشاعر اليوم في حاجة إلى وحي الرومانسي، ولا هو في حاجة إلى وادي عبقر، ولا حاجة له لا للشياطين ولا للملائكة، كما لا وقت عنده الآن ل«توهان» الفيلسوف أو تقمص المفكر أو بطولة الفارس أو المريض بالسرو والزيزفون، وهي، مرة ثانية، رمزيات رومانسية، وحسبك، هنا، أن ما ينطبق على الشاعر، إنما ينطبق أيضاً على الروائي الذي وجد بدائله العملية والعلمية في المخطوط والتاريخ وعلم الآثار، والانثروبولوجيا، وعلوم الجمال والأديان والحضارات.

ولكن، الحنيني، رومانسي على نحو فردي، مشدود إلى مكان بعينه أو إنسان بعينه، او ذاكرة بعينها، وأنت لن تتخلص من حنينك لأنه طبع وفطرة وتكوين نفسي، وروحي، وقلباني أو قلبي.

في قلب هذا الحنين ثمة رومانس يحيط بالإنسان بالفطرة وما من إنسان في العالم كله إلا وفي داخله رومانسية ما في حدود ما، ولكن هذه الرومانسية لا تعيده إلى الطبيعة غزالاً، أو صيّاداً أو مزارعاً أو حطّاباً.. أو كائناً ماضوياً يرتدي جلود الحيوانات، وينتقل من مرحلته الرعوية أو الزراعية إلى الغناء، والهيام في الغابة مع الحيوانات والطيور والفراشات. هذه مرة ثانية حالة بشرية مستحيلة تماماً مثل الأدب الرومانسي المستحيل الآن بصورته وهويته الماضوية.

مفردة

بل لكل امرئ رومانسيته أو في داخل كل منا ثمة كينونة رومانسية، تماماً كما في داخل كل إنسان خوف وندم وحنين، لكن هذه الرومانسية الغريزية الفطرية الشبيهة تماماً بالفرح أو الحزن أو الغضب أو النسيان.. لا تنتج أدباً بالمعنى الظاهراتي أو الاصطلاحي ذلك أن مثل هذه الرومانسية هي لحظوية أو آنية أو هي شعور قلق، غير ثابت، على العكس تماماً من الشروط الموضوعية والنفسية والفكرية التي ظهرت في ضوئها رومانسية الأدب العالمي، الذي ينتج عنه في النهاية عشرات التعريفات للرومانسية، وانتقالها كمفردة من لغة إلى أخرى في العالم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5brjrkj7

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"