مفارقات سهو الدبلوماسي

00:08 صباحا
قراءة دقيقتين

أهذه هفوة أم كبوة، أم مزاج يحتاج إلى قهوة؟ ما كان متصوراً أن تغيب عن حامل حقيبة الخارجية التونسية مجموعة بديهيات لا تستدعي توضيح الواضحات. الدبلوماسي يتعلم أوّلَ ما يتعلم أن الكلمات مطبّاتٌ وفخاخٌ وألغام. مفردةٌ في غير موضعها يمكن أن تصبح كرة ثلج تتحول إلى كرات لهب، أليس يقال: «والحرب أوّلها كلام»، وأقرب ما يلعب برأس المرء لسانه: «جراحات السنان لها التئامٌ.. ولا يَلتامُ ما جرح اللسانُ». منظومة هذه المعاني المتجاورة مجرّة في النثر والشعر في جميع اللغات.

الطريف هو أن الظرف الزماني لم يكن ليساعد الوزير على مرور الحادثة من دون أن تستوقف الانتباه، فالرئيس قيس سعيد حتى قبيل دخوله قصر قرطاج، جعل الفصحى لغة خطابه ومحاورته، جماهيريّاً وفي اجتماعات الحكومة وسائر الشؤون العامة والخاصة، مع استثناءات بالعامية، غدت هي المستغربة. في القاهرة التقى وزيرا الخارجية الروسي والتونسي، وعقدا مؤتمراً صحفيّاً، وكانت المفاجأة، فسيرغي لافروف كان يتحدث إلى الإعلاميين بالروسية، بينما آثر نبيل عمّار، من دون مبرّر، الحديث بالفرنسية. العجيب أن مجموعة مسائل في غاية الأهمية والحراجة بالنسبة إلى الدبلوماسي لم تخطر على بال الوزير، ولم يبادر مساعدوه ومرافقوه إلى الإيماء إليه بأنه يجب تصحيح الموقف. الأدهى هو أن القناة الروسية الناطقة بالعربية نقلت المؤتمر كاملاً، وكان طبيعيّاً أن يُترجَم كلام لافروف إلى العربية آنيّاً، أمّا أن يُترجَم كلام نبيل عمّار إلى العربية في قناة ناطقة بالعربية وهو عربي، فهذا عسير الهضم غير مبهج، محرِجٌ ليس له مَخرج.

مشهد دبلوماسي شائك كالقنفذ. فات السيد الوزير أن المؤتمر منعقد مع نظير روسي، تطِنّ الفرنسية في سمعه طنيناً تاريخيّاً يعيد إلى ذاكرته تاريخ غزو نابليون، الذي دفع الروس إلى إحراق موسكو بأيديهم حتى لا يظفر الغازي المحتل بمبتغاه. لم يحسب بونابرت حساباً للجنرال ثلج الذي قضى على مئات ألوف الجنود الفرنسيين، ومئات ألوف الخيول والبغال في جيوشهم. الأنكى هو أن فرنسا، ضمن حلف شمال الأطلسي، تعيد اللعبة الاستراتيجية على نحو أخطر عبر إطالة الحرب في أوكرانيا حتى آخر أوكراني. لكن، ما العمل، فالسياسة أيضاً لا تخلو من أضغاث الأحلام وأوهام الراعي وجرّة العسل، فوزير المالية الفرنسي، برونو لومير، قال في بداية «العملية الخاصة» الروسية: «سأدمّر الاقتصاد الروسي»، لكن المقادير استجابت بالمقلوب، فصعد الروبل صعوداً تاريخيّاً. وأردف الإليزيه أعجازاً وناء بكلكل تصريحٍ أغرب: «يجب أن تُهزم روسيا، من دون أن تُسحق».

لزوم ما يلزم: النتيجة التذكيرية: كيف ينسى الدبلوماسي الإفريقي أن إفريقيا تُنشد: «ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلِ»، وأن تونس استقلّت سنة 1956؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/58837fpx

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"