سردية أخرى للنهضة العربية

00:32 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

درجت الأدبيات المختلفة على تقسيم الفكر العربي الحديث والمعاصر وفق ثنائيات تتوزع على: التراث/ الحداثة، الأصالة/ المعاصرة، الأنا/ الآخر..الخ، ودرجت أيضاً على تصوير ذلك الصراع العنيف الذي دار بين طرفي كل ثنائية، صراع فكري وأدبي وحتى سياسي، امتدت آثاره على مختلف شرائح المجتمع. فالحداثة مثلاً اعترضتها قوى كلاسيكية أعاقت حضورها في مجتمعاتنا على مدار عقود طويلة، وتسببت في تأخر نهضتنا ولحاقنا بالآخرين، ولكن شهدت السنوات الأخيرة أطروحات جديدة تعيد التفكير من منظور آخر، يذهب إلى أن الصراع بين تلك الثنائيات لم يكن على هذا النحو العنيف الذي تصوره تلك الأدبيات.

في كتابه «السعي للعدالة..الطب والفقه والسياسة في مصر الحديثة»، يذهب المؤرخ خالد فهمي إلى أن الثقافة الأصيلة لم تكن عائقاً أمام انخراط مصر في الحداثة العالمية خلال القرن التاسع عشر. ويحلل فهمي الكثير من النماذج التي اعتبرها المفكرون أمثلة على معوقات تنتمي إلى ثقافة الذات، ومنها مسألة إشكالية تعود إلى الطب، وتتمثل في تخلف العالم الإسلامي في هذا العلم خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، لأن التشريعات الإسلامية كانت ترفض تشريح الجسد البشري. هنا يحكي فهمي قصة تأسيس محمد علي لمستشفى طب القصر العيني، وكيف كلف الطبيب الفرنسي كلوت بك بالإشراف عليه، ولم يجد كلوت بك أفضل من طلبة الأزهر ليبدأ بهم أول دفعة طب مصرية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، والمفاجأة أنه لم تكن هناك أية عقبات فقهية أمام دراسة هؤلاء الطلبة للتشريح، وإنما كانت هناك عدة أفكار اجتماعية تقليدية حول حرمة الجسد البشري، ولم يلبث هؤلاء الطلبة أن تجاوزوها ونجحوا في دراستهم، وبخلاف هذا النموذج، يحلل فهمي نماذج أخرى تتعلق بالتطعيم والحجز الصحي ووظيفة المحتسب، وغيرها ليصل إلى نتيجة أن لا شيء في ثقافة الذات يعيق التحديث كما تقول العديد من الأدبيات الفكرية التي تناولت مسألة النهضة أو علاقة الأنا بالآخر.

تحتاج قصة النهضة العربية كما بدأت وقائعها منذ أكثر من قرنين إلى رؤى جديدة، ووجهات نظر أخرى تعيد سرد ما حدث بالفعل، ولا تركن إلى تلك الصراعات النظرية المتناثرة في هذا الكتاب أو ذاك بين مختلف التيارات الفكرية، بل إن هذه الأخيرة، وأعني تياراتنا الفكرية، تتطلب بدورها مراجعات. فالمتأمل في هذه التيارات لن يجدها واضحة ومحددة وموزعة هذا التوزيع الصارم بين يساري ويميني وليبرالي في الأدب والفكر والسياسة، فمعظم هذه التيارات كانت تميل غالباً إلى الوسطية في مختلف القضايا والإشكاليات، ولم يكن هناك إلا عدة أفراد هنا أو هناك يعبّرون بقوة عن اليمين أو اليسار ويتمسكون بمواقفهم حتى النهاية، أفراد لا يمكن إلا وصفهم بالتطرف في ما آمنوا به من أفكار ولا يعبّرون عن مجمل تلك التيارات.

إن قراءة أخرى للفكر العربي الحديث ضرورة ملحة، وتحتاج إلى من يهتم أكثر بما كان يجري على الأرض، وتتخلص من تلك المقولات المحفوظة والمعلّبة التي تعودنا عليها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/e9knap45

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"