أين أخطأ «الفيدرالي»؟

21:42 مساء
قراءة 3 دقائق

في الولايات المتحدة، وعلى الرغم من أن إدارة الرئيس جو بايدن أصدرت المزيد من شيكات الإعانة للشعب الأمريكي، هناك شعور متزايد واسع النطاق بأن أسعار كل شيء لا تزال مرتفعة بشكل عام مقارنة بدخل الأسر، بدءاً من التصنيع مروراً بالسلع الغذائية وانتهاء بقطاع الخدمات، فهل لذلك ارتباط مباشر وتام بارتفاع أسعار الفائدة؟

تشكل أسعار الفائدة تكلفة رأس المال، وتؤثر هذه التكلفة بشكل كبير على أسعار السلع والخدمات. وبالتالي، ما دام بنك الاحتياطي الفيدرالي مستمراً بدورة الرفع هذه، فستبقى الأسعار جامحة بدلاً من تراجعها، مما سيجعل نمط الحياة، خصوصاً بالنسبة للأفراد العاديين، أكثر إيلاماً وأقل جودة. فلماذا يُصر الفيدرالي إذن على مواصلة رفع الأسعار؟

في الواقع، يعود قرار رفع أسعار الفائدة إلى أن البنك المركزي الأمريكي يرى أن مؤشرات التضخم هي المعيار لما يقوم به. ووفقاً للمؤشر الرئيسي الصادر عنه، من المتوقع أن ينخفض التضخم إلى 3.3% بحلول نهاية هذا العام، ثم ينخفض مجدداً إلى 2.5% العام المقبل. لكن من غير المتوقع العودة إلى مستوى التضخم الذي يستهدفه المركزي، أي 2%، قبل عام 2026.

بعبارة أخرى، واستناداً إلى السياسة النقدية الحالية، لن تتاح للأمريكيين في السنوات المقبلة الفرصة ليشهدوا نهاية لرفع أسعار الفائدة أو بداية لخفضها، كما ستستمر الأسعار في مجمل حياة الأفراد اليومية بالارتفاع. وتفيد التقارير بأنه بعد اجتماع الفيدرالي في سبتمبر/أيلول الفائت، يعتقد 12 من أصل 19 عضواً مصوتاً أن رفع أسعار الفائدة سيستمر للفترة المتبقية من هذا العام.

وفي ضوء ذلك تتكشف أمامنا مفارقة غريبة. فبدلاً من أن يحدّ رفع أسعار الفائدة من التضخم العنيد بحسب أهداف السياسة النقدية للبلاد، فاقمت هذه الزيادات التضخم عملياً، مما خلق مصاعب جديدة في حياة الناس. فما الخطأ الذي حدث على وجه التحديد في المنطق الذي تتعاطى به السياسة النقدية الأمريكية؟

في الواقع، يحاول بنك الاحتياطي الفيدرالي هنا معالجة المشاكل الحالية من خلال التفكير المالي ذي التوجه الأكاديمي القديم. ويرى هذا النهج أنه إذا كانت معدلات التضخم الأعلى كثيراً من 2% تحدث في بيئة مستقرة نسبياً، مثلما كان الحال أواخر القرن العشرين إبّان عصر العولمة، فإن مثل هذه السياسة النقدية، بما في ذلك رفع أسعار الفائدة، تعتبر معقولة للغاية. فخلال تلك الفترة، كانت تقلبات الأسعار تعتمد إلى حد كبير على العوامل النقدية الحساسة التي يمكن أن تلعب دوراً حاسماً في كبح جماح التضخم.

إلا أن الأمور تغيرت إلى حد كبير الآن، وبات العالم يشهد تراجعاً ملحوظاً للعولمة، وتعمل الصناعات والشركات الأمريكية على إعادة ضبط سلاسل التوريد الخاصة بها، بل وتنقل مرافق إنتاجها أيضاً. وفي الماضي أيضاً، كان الإنتاج يتركز بشكل كبير في الصين، التي كانت يطلق عليها في كثير من الأحيان لقب «مصنع العالم». أما اليوم، فتنتشر الموارد عبر مواقع متنوعة مثل فيتنام والهند وبنغلاديش وإندونيسيا، مما يؤدي إلى اختلافات في جودة المنتج والمعايير والتكاليف، بالإضافة إلى مجموعة من لوجستيات النقل المتباينة. وعليه، فإن التقلبات في مستويات المخزون تؤدي إلى زيادة التكاليف بدلاً من خفضها. وهذه التحديات هي نتيجة مباشرة لاتجاه تراجع العولمة وإعادة تشكيل سلاسل التوريد.

كما تجدر الإشارة إلى أن خطأ بنك الاحتياطي الفيدرالي هو أن التكاليف الناتجة عن تفكيك العولمة وإعادة ضبط سلسلة التوريد لا يمكن تغييرها والتكيف معها أو معالجتها من خلال تبني سياسات نقدية من شأنها تعديل أسعار الفائدة. فإذا كان هدف التضخم الأولي للفيدرالي هو 2%، فإنه وفي سياق تراجع العولمة الحاصل وضوابط سلسلة التوريد الجديدة، يجب أن يتم تعديل هذا الهدف إلى 4%. علماً بأن مثل هذا الارتفاع في سعر الفائدة لن يؤدي إلا إلى مزيد من تشوهات السوق، فماذا سيحدث إذن إذا أصرّ الاحتياطي الفيدرالي على استمرار دورة رفع الأسعار؟

ستكون هذه بلا شك استراتيجية نقدية محفوفة بالمخاطر. ففي ظل الظروف التي لا يتجاوب فيها التضخم الجامح مع رفع أسعار الفائدة، من الممكن أن يتأثر انتعاش الأعمال وصمود الشركات، بالإضافة إلى مستويات الاستهلاك المرتفعة للأفراد. وفي ظل الاضطرابات التي تشهدها القطاعات الاقتصادية والمالية والصناعية، قد يؤدي ذلك إلى سلسلة من حالات إفلاس المؤسسات المالية. وفي مثل هذا السيناريو، فإن إصرار بنك الاحتياطي الفيدرالي على رفع أسعار الفائدة سيجلب معه الركود التضخمي للولايات المتحدة.

أما من الناحية السياسية، من شأن الحاصل أن يؤثر بشكل خطِر على حظوظ الحكومة الديمقراطية قبيل الانتخابات التشريعية المقبلة، ويثير سخطاً شعبياً عارماً وعلى نطاق واسع.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3axd4t9k

عن الكاتب

مؤسس وباحث في مؤسسة «أنباوند» الفكرية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"