عادي
ضفة القراءة

هل تأثر الكوري جو سيو بالشاعر الجاهلي تميم بن مقبل؟

23:19 مساء
قراءة 4 دقائق
جيونغ جو سيو
جيونغ جو سيو
  • ثقافة تمجد الطبيعة بمختلف عناصرها


الشارقة: يوسف أبولوز

توصف كوريا الجنوبية ببلد الزهرة الأبدية، وربما يعود هذا الوصف إلى تمجيد الطبيعة في حدّ ذاتها، فهي بلاد الجبال والأنهار والزهور، وهذه موجودة، بالطبع، في كل العالم غير أن اللافت في الشعر الكوري هو حضور الطبيعة بقوّة في هذا الأدب الذي يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد كما جاء في بعض المصادر الموسوعية (الوِيكِيبِيديا)، غير أنني، وعلى نحو شخصي، ومن خلال قراءات مكثفة للشعر الكوري في الآونة الأخيرة توصلت إلى الشعر في بلد تلك الزهرة يكتبه الملوك ويؤسسون له، ويؤصلون لتقاليده الفنية، وإن لم يكتب ملوك كوريا القديمة الشعر، فإنهم يوّجهون ويأمرون بكتابة قصائد ملحمية تؤرّخ لبطولات وجماليات بلادهم، مثل الملك (سي - دجونغ)، وللشعر الكوري أيضاً تقاليد وزنية عريقة (السيجو) الذي يشبه في رأيي شعر (الهايكو).

في مادة سابقة أشرت إلى الشاعر الكوري المهم جداً في بلاده والمرشح أحياناً لنوبل (كو أون)، ونقله إلى العربية مترجمون عرب أبرزهم الشاعر المصري أشرف أبو اليزيد.

غير أننا يجب ألا نهمل شاعراً كورياً مهمّاً هو الآخر، قرأت له مجموعة من القصائد من خلال الموقع الإلكتروني (القصيدة كوم) هو الشاعر «جيونغ - جو سيو 1915 - 2000» وجميع الترجمات هنا جاءت عن طريق فوزي محيدلي في الموقع المذكور (6 قصائد) وسوف انتبه بشكل خاص إلى قصيدة جيونغ سيو التي جاءت بعنوان: (لو صرت حجراً)، ولعلّك هنا تتذكر معي قصيدة تميم بن مقبل العامري التي يقول فيها:

مَا أَطْيَبَ العَيْشَ لَوْ أَنَّ الفَتَى حَجَرٌ

تَنْبُو الحَوادِثُ عَنْهُ وَهْوَ مَلْمُومُ

لاَ يُحْرِزُ المَرْءَ أَنْصَارٌ ورَابِيَةٌ

تَأْبَى الهَوَانَ إِذَا عُدَّ الجَرَاثِيمُ

لاَ تَمْنَعُ المَرْءَ أَحْجَاءُ البِلاَدِ ولاَ

تُبْنَى لَهُ في السَّمَواتِ السَّلاَلِيمُ

تميم بن مقبل العامري شاعر جاهلي (554 - 657) عاش 103 سنوات يقال إنه أدرك الإسلام، ولكنه تحسّر على أيام الجاهلية.

وعلى أية حال.. هل يكون الشاعر الكوري (جيونغ جو سيو) قد تأثر بشاعرنا العربي الجاهلي ذاك؟؟.. سؤال من بعيد، ولكن لنقرأ قصيدة جيونغ (لو صرتُ حجراً) ترجمة فوزي محيدلي.. يقول جيونغ:

«لو صرتُ حجراً.. سيصير الحجر زهرة لوتس..//.. وزهرة اللوتس بحيرة..//.. وإذا صرتُ بحيرة..//.. ستصير البحيرة زهرة لوتس..//.. واللوتس تصير حجراً..».

هذه هي القصيدة الكورية الصغيرة كلّها، والبطولة فيها لزهرة اللوتس وليس للحجر، وعلى أي حال حين يتمنى الشاعر الجاهلي أو أي شاعر في العالم أن يصبح حجراً، فالأمنية هنا تنطوي على شعور وجودي، مكثف، غير أن حجر (جيونغ جو سيو) يتحول إلى زهرة لوتس، الزهرة الآسيوية ذات الأبعاد الأسطورية في الثقافة الآسيوية أو في الميثولوجيات الآسيوية عموماً، وبشكل عام يقول جيونغ بكل مباشرة وبكل بساطة:.. ماذا لو تحوّلت أنا الكائن البشري إلى حجر؟؟ فيما يتمنى تميم بن مقبل أن يصبح حجراً، كل حوادث الدنيا تقع حوله وهو ملموم على نفسه ولا شأن له بخراب العالم..

تلك كانت وجودية ذلك الشاعر الجاهلي، وهذه وجودية الشاعر الآسيوي الذي يأمل لو يتحول الحجر إلى زهرة، وليست أية زهرة.. بل زهرة لوتس مقدّسة..

للشاعر (جيونغ جو سيو) قصيدة أخرى رائعة من ترجمة: فوزي محيدلي أيضاً، ولم أقل إنها قصيدة رائعة (اعتباطاً) أو(مجاناً) بل لعلّي رأيت في هذه القصيدة شيئاً من حرارة الرومانسية العربية وبخاصة في شعر الحب..

اقرأ معي ماذا يقول (جيونغ جو سيو) في قصيدة حب له بعنوان (البلبل):

«الدروب التي سلكها حبي روتها الدموع، عازفاً على نايه، شرع في رحلته الطويلة إلى الممالك الغربية، حيث تتساقط أمطار نبتة الأضاليا، مرتدياً الأبيض بالكامل، أناقته ولا أحلى، ولا أحلى، فيما رحلة حبيبي طويلة جداً، ولن يعود أبداً.

لربما انتعلتُ حذاء مجدولاً أو صندلاً من قش حيكت كل جديلة منه بكل فصول حكايتنا الحزينة، ليتني بعد أن قصصت شعري الضئيل بموسى فضية استعملت ذلك الشعر لحياكة صندل له.

في سماء الليل المتعَبَة، فيما تتوهج قناديل الحرير، يشدو طير بنواح لا يستطيع معه شيئاً، لكن منعشاً صوته في متاهات درب التبانة، فيما عيناه مغلقتان وهو منتّش بدمه.عزيزي الصغير، قصد أطراف السماء وحيداً».

ألا تذكرك هذه القصيدة الحزينة بانكسارات ومرارات شعر الألم عند بدر شاكر السيّاب مثلاً.

ثم ألا ترى في القصيدة رثاءً ما لحب فاشل لم يتحقق على الرغم من انسكاب الدموع تلو الدموع على درب يسير عليها رجل بصندل مجدول من القش، وربما قصّ شعره ليصنع من ذلك الشعر صندلاً (في سماء الليل المتعبة)؟؟

..فعلاً لا حدود ولا لغات ولا قوميات ولا أديان يمكن أن تفصل بين شعر إنساني وآخر في هذه الأرض كلّها.. هذه الأرض التي تصبح بالغة الصغر والخفّة حين يكتبها الشعراء بمثل هذا الحزن المعتق حيث تتوهج قناديل البحر.

نتعلم من شعر (جيونغ جو سيو) أن ننأى بأنفسنا عن الجلافة واللؤم والخبث والكذب، نتعلم الحب بكل بساطة واختصار.. يقول في قصيدة له بعنوان (الظهيرة) أيضاً من ترجمة فوزي محيدلي:

تلتف الدروب بين حقول الزهور القرمزية

التي قطفت وأكلت موتاً أشبه بالنوم.

يناديني حبي، بعد أن يسرع الخطى

فوق دروب الجبل الملتوية العالية، التي تتمطى

مثل أفعى دوّخها الأفيون.

ينساب الدم من أنفي حلو الشذا

مالئاً راحتيّ وأنا أسرع.

في تلك الظهيرة الحارقة والساكنة كما هدأة الليل

جسدانا يلتهبان...

..ومرة ثانية، لك أن تلاحظ حجر الزاوية الذي بدأنا منه وأقصد به (بلد الزهرة الأبدية) حيث تكثر الزهور، الزهور القرمزية عند هذا الشاعر الذي ينادي عليه الحب..

غير أن (جيونغ جو سيو) ليس شاعر زهور وحب وحجارة ولوتس فقط... إنه شاعر إنساني لم يشح بوجهه عن المصابين بالجذام.. أولئك المرضى المرعبون، المحكومون إلى النحيب طوال الليل يقول في قصيدة بعنوان (المصاب بالجذام)..

«ناح المجذوم

متوسلاً إلى الشمس والسماء..

أضاء القمر فوق حقول الشعير

فيما هو ينهش لحم طفل

وينتحب طوال الليل بدموع قرمزية كما الزهرة».

صوت شعري إنساني، وجودي، تأملي، وهو أيضاً شعر مؤثث بالزهور حتى لو أنها من مادة الحجر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/vuxfubwy

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"