عادي
صراع روسي أمريكي على النفوذ في أرمينيا وجورجيا

جنوب القوقاز.. الجغرافيا المفخخة

22:05 مساء
قراءة 7 دقائق
الرئيس الروسي فلاديمير بوتن يتوسط الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف ورئيس الوزراء الأرمني نيكول باشنيان
تدريبات عسكرية أمريكية أرمنية ضد النفوذ الروسي في جنوب القوقاز
دبابة أذربيجانية لدى دخولها إقليم أرتساخ
مطالب بعدم ترك الإقليم لأذربيجان

د. أيمن سمير

منطقة جنوب القوقاز التي تضم 3 دول رئيسية هي جورجيا وأرمينيا وأذربيجان إحدى حلقات الصراع الملتهبة بين روسيا من جانب والولايات المتحدة من جانب آخر، ففي الوقت الذي تنظر موسكو لهذه الدول الثلاث باعتبارها ضمن المجال الحيوي لها نظراً لأن هذه الدول كانت ضمن الاتحاد السوفييتي السابق، وهناك روابط تاريخية وثقافية ولغوية مع شعوب هذه المنطقة، لكن على الجانب الآخر ترى الولايات المتحدة ومن خلفها الاتحاد الأوروبي وحلف دول شمال الأطلسي «الناتو» أن هناك فرصة ذهبية الآن لجذب هذه الدول بعيداً عن روسيا، واستغلال حالة الانشغال الروسي بالحرب الروسية الأوكرانية، كما تراهن الولايات المتحدة على التطورات الأخيرة التي لحقت بجنوب القوقاز أو شرق أوروبا، والتي يمكن أن تكون حافزاً جديداً لتغيير قناعات تلك الشعوب من الارتباط التاريخي مع روسيا إلى الالتحاف والالتحاق بالمعايير والقيم الغربية.

وتعتمد الولايات المتحدة لإحداث هذا التحول على مجموعة من الأسباب، لعل أبرزها «تسويق الفزع» من روسيا عبر التذكير بالحرب الجورجية الروسية في عهد الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيدف عام 2008.

خسرت جورجيا في تلك الحرب القصيرة جمهوريتي أوسيتيا الجنوبية وأفخازيا، وسيطرت روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014، والحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير/شباط 2022، وتدعم واشنطن التيارات الجورجية الموالية للغرب في ظل مراوحة المجتمع الجورجي بين الموالين لروسيا، والراغبين في الانتقال للمعسكر الغربي، وهي الحالة التي سادت البلاد منذ «الثورة الوردية» عام 2003، لكن أكثر التطورات التي تراها واشنطن لصالحها هو ما جرى في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، عندما شنت أذربيجان «حرباً خاطفة» سيطرت خلالها على كل إقليم ناجورنو كاراباخ، الذي لا تتجاوز مساحته 4.4 ألف كم، وكان يسكنه 120 ألف نسمة خرج أغلبيتهم بعد هزيمة قوات «أرتساخ» - الاسم الأرمني للإقليم - أمام القوات الأذربيجانية، وتقوم القراءة الأمريكية لما جرى في سبتمبر الماضي على أنه «خسارة استراتيجية» لروسيا، التي لها قوات حفظ سلام في أرمينيا يصل تعدادها لنحو 2000 جندي، فالحكومة الأرمنية بقيادة رئيس الوزراء نيكول باشنيان باتت ترفض تجديد أي علاقة مع الكرملين، ليس فقط من خلال التصريحات، بل من خلال خطوات حقيقية على الأرض؛ حيث ترفض حكومة يرفان أي تعاون مع موسكو، بحجة أن روسيا لم تدعم أرمينيا في حربها عام 2020 ضد أذربيجان، والتي خسرت فيها أرمينيا جزءاً كبيراً من إقليم ناجورنو كاراباخ، وكانت هذه الهزيمة منذ 3 سنوات مقدمة لهزيمة سبتمبر الماضي، وتقول حكومة باشنيان الذي جرى إعادة انتخابه عام 2021، إن مصالح الشعب الأرمني مع الغرب أكثر منها مع روسيا، وهي مقدمة ليس فقط لطلب أرمينيا سحب القوات الروسية من الأراضي الأرمنية، بل هناك قطاعات من النخب السياسية الأرمنية تدعو للانضمام لحلف الناتو، وأن الناتو بقيادة الولايات المتحدة هو القادر على حماية أرمينيا وليس القوات الروسية التي لم تتدخل في آخر حربين بين أذربيجان وأرمينيا.

ليس هذا فقط فأذربيجان باتت أقرب للغرب وتركيا العضو في حلف الناتو؛ حيث يردد كثيراً الأتراك والأذربيجانيون أنهما «أمة واحدة في دولتين»، وكل هذا يخصم من النفوذ والحضور والزخم التاريخي لروسيا في منطقة حيوية من العالم، فما هي الأدوات الروسية للحفاظ على مصالحها وبقائها في تلك المنطقة التي تربط جنوب وشرق أوروبا بوسط آسيا حتى الحدود الصينية شرقاً؟ وكيف هي الحسابات الإقليمية الأخرى في هذه المنطقة الحيوية من العالم؟ وهل يمكن أن يسود السلام والاستقرار في هذا الإقليم من العالم في ظل عدم وجود أفق سياسي لحل الأزمة الروسية الأوكرانية؟

هدوء العاصفة

رغم حالة الهدوء العسكري التي تلفّ المنطقة بعد سيطرة أذربيجان بالكامل على إقليم ناجورنو كاراباخ المتنازع عليه منذ عام 1918، ونزوح أغلبية سكانه إلى أرمينيا فإن هناك من يرى أن عدم منح الإقليم الحكم الذاتي الذي كان يتمتع به منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وسعي أذربيجان لضم ودمج الإقليم الذي خاضت باكون ويرفان حروباً دامية للسيطرة عليه من عام 1988 حتى 1994 قتل فيها نحو 30 ألف شخص، ليس عليه توافق في أوروبا والولايات المتحدة التي شهدت الكثير من المظاهرات ضد دمج الإقليم مع أذربيجان، وهو ما يقول إن ما جرى يمكن أن يكون «حلقة فقط» في مسلسل الصراع التاريخي بين أذربيجان وأرمينيا، فسبق لأرمينيا أن انتصرت في حرب عام 1991، وسيطرت بالكامل ليس فقط على إقليم ناجورنو كاراباخ، بل على 7 مناطق من الأراضي الأذبيجانية، قبل أن تستعيد أذربيجان كل هذه المناطق في حرب 2020، والعملية الخاطفة في 19 سبتمبر الماضي، وتعود سيناريوهات عدم الاستقرار لعدد من الأسباب وهي:

أولاً ممر لاتشين

وهو ممر ضيق لللغاية، لا يزيد عرضه عن 5 كم، وهو الرابط الوحيد بين إقليم ناجورنو كاراباخ وأرمينيا، وتنتشر فيه منذ عام 2020 قوات حفظ السلام الروسية، ويخشى البعض أن يتحول هذا الممر الذي يقع من الناحية القانوينة داخل الأراضي الأذربيجانية إلى مساحة للخلاف بين من تبقى من السكان والسلطان الأذربيجانية، ففي الوقت الذي وعد فيه الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف بأن تتحول كل منطقة ناجورنو كاراباخ إلى «فردوس»، يتحدث الأرمن وبعض الدول الغربية مثل فرنسا عن مخاوف بتطهير عرقي في الإقليم وممر لاتشين.

ثانياً إسرائيل وإيران

منذ 26 مارس/آذار الماضي أخذ الصراع بين إسرائيل وإيران يأخذ منعطفاً جديداً في جنوب القوقاز؛ حيث تبادلت إسرائيل وأذربيجان فتح السفارات في تل أبيب وباكو، وهي خطوة زادت من القلق الإيراني من الوجود الإسرائيلي بالقرب من حدودها الشمالية، كما تخشى إيران أن يقود ما حدث في سبتمبر الماضي إلى تراجع نفوذ حليفتها موسكو في تلك المنطقة لصالح الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الذي ينظر للمنطقة باعتبارها جزءاً من أوروبا، وتبحث إيران خياراتها فيما يتعلق بطرق النقل؛ لأن تصاعد النفوذ الأمريكي والإسرائيلي في تلك المنطقة سوف يشكل «تحدياً لوجستياً» للبضائع الإيرانية التي كانت قبل سبتمبر الماضي تتحرك بحرية شديدة، نظراً للنفوذ الروسي، سواء عبر نحو 2000 جندي روسي أو قوات حفظ السلام الروسية، ووقع ما تحسبت له إيران عندما فرضت أذربيجان بعض الضرائب على الشاحنات الإيرانية التي تمر بالمنطقة قرب الحدود الإيرانية مع أذربيجان، كما تقوم الحسابات الإيرانية على أن أذربيجان في حرب 2020 وحرب سبتمبر 2023 حصلت على مساعدات عسكرية كبيرة من إسرائيل، بما فيها الطائرات المسيرة، ومنظومة الدفاع الإسرائيلية «باراك 8» التي اعترضت «صواريخ إسكندر» الروسية التي أطلقتها قوات ناجورونو كاراباخ على باكو، وهو ما يؤكد أن العلاقات الإسرائيلية الأذربيجانية تتعمق وتتجذر كل يوم، لكنّ هناك قلقاً إيرانياً خاصاً من سعي أذربيجان لربط أراضيها بجمهورية «نخجوان ذاتية الحكم» عبر ممر «زانغيزور»، وهو طريق ضيق يمتد على طول الحدود الأرمنية الإيرانية، ويعدّ نقطة الوصول الوحيدة من إيران إلى أرمينيا، وسيطرة أذربيجان على هذه المنطقة يثير قلق إيران بشكل خاص.

ثالثاً القوة الذكية الروسية

موسكو لم تعتمد فقط على «القوة الخشنة» والقواعد العسكرية في جنوب القوقاز، لكنها بدأت في دمج «القوة الناعمة» مع «القوة الخشنة» فيما يطلق عليه الروس «بالقوة الذكية»، وهي معادلة تقوم على «مراجعة الحسابات» و«إعادة التموضع»، فعندما كانت أرمينيا تتعرض لهزيمة عام 2020 لم تتحرك روسيا عسكرياً كما توقع البعض، رغم أن ذلك كان قبل الحرب الروسية الأوكرانية، وكانت روسيا في قمة لياقتها العسكرية، وتركت موسكو رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشنيان القريب من الغرب ليتحمل نتائج الهزيمة، لكن في نفس الوقت حافظت روسيا على مصالح مهمة وتواصل مستدام مع أذربيجان وتركيا، وذلك عبر الاتفاق على معادلة مهمة لكلٍّ من تركيا وإيران وروسيا، وهي عدم دخول قوات أجنبية للمنطقة، ونجحت موسكو من خلال دعم العلاقات التجارية والاستثمارية والسياحية مع أنقرة وباكو في الإبقاء على «مكانة روسيا» حتى لو كان في الحد الأدنى في المنطقة، فعندما قتل عدد من قوات حفظ السلام الروسية في سبتمبر الماضي على يد قوات أذربيجانية سارع الرئيس علييف بالاعتذار والعزاء للرئيس بوتن، كما أن روسيا لا تزال تراهن على اللغة والثقافة الروسية السائدة بقوة في المنطقة.

رابعاً «ثمار تركية»

يمكن القول بأن تركيا من أكثر الرابحين سياسياً واقتصادياً من نتائج الصراع الحالي في منطقة جنوب القوقاز؛ لأن أذربيجان التي تتحدث التركية، وينظر إليها على أنها بالنسبة لتركيا مثل بيلاروسيا لروسيا، انتصرت عسكرياً مرتين، الأولى في 2020، والثانية في الشهر الماضي، وفرضت كل شروطها ليس فقط باستعادة كل إقليم ناجورنو كاراباخ وباقي المحافظات التي استولت عليها أرمينيا في حرب 1994، بل سوف تقوم بدمج كاراباخ في الاقتصاد والدولة الأذربيجانية، وينظر لكل هذه النجاحات باعتبارها نجاحات تركية في الأساس؛ لأن أذربيجان حققت هذه النجاحات العسكرية الخاطفة بفعل مساعدة تركية صارمة خاصة المسيرات التركية، كما أن سيطرة أذربيجان على ممر «زانغيزور» سيعزز من التلاحم بين أراضي أذربيجان وتركيا ونقل الغاز والطاقة من باكو إلى ميناء جيهان التركي، لكن هذا الممر سوف يوفر لتركيا «فرصة تاريخية» لم تتكرر منذ نهاية الإمبراطورية العثمانية، وهي أن ربط الأراضي التركية بممر زانغيزور «الأذربيجاني سوف يوصل تركيا برياً بكل دول «المجلس التركي» الشاسعة في آسيا الوسطى، وهي تركمانستان وكازاخستان وقيرقيزستان وأوزباكستان، وهو حلم تركي ظل يراود الأتراك منذ فترة طويلة، وهو ما يعزز الحضور الجيوسياسي لأنقرة بالقرب من الأراضي الروسية والصينية، بل سوف يضاعف من مكاسبها الاقتصادية خاصة في مجالي النفط والطاقة».

الثابت أن منطقة جنوب القوقاز هي حلقة الربط بين آسيا الوسطى والشرق الأوسط والغرب، وهو ما يجعل تعزيز السلام والاستقرار وبناء مسار مستدام للتعاون الإقليمي والدولي هدفاً يستحق العمل عليه من كافة القوى الإقليمية والدولية الفاعلة على الأراضي، حتى تتجاوز المنطقة الصورة النمطية بأنها مجرد مساحة من «الجغرافيا المفخخة».

[email protected]

الصورة
1
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5h8kpf6e

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"