عادي

«تجليات»..خريطة حرة لحوار جماليات تأسر الروح

23:53 مساء
قراءة 5 دقائق
افتتاح مهرجان الشارقة للفنون الإسلامية تصوير: (( هيثم الخاتم ))

الشارقة: يوسف أبولوز
مشروع الشارقة الثقافي يقوم على أركان عدة تنهض عليها بنية إبداعية بالدرجة الأولى، لكن من يدقق جيداً في أعمدة هذا المشروع المعرفي والفكري أيضاً يتوصل إلى الأساسيات.. وهي: الكتاب، والمسرح، والفنون، ومن منظومة الفنون ندلف إلى مهرجان الفنون الإسلامية في الشارقة وفي مشروعها المحلي والعربي والعالمي، وقد انطلقت الدورة الأولى من المهرجان في العام 1998، وهو المشروع الأطول من الناحية الزمنية إذْ تمتد عروضه الفردية والجماعية إلى أربعين يوماً، ومن مميزات المهرجان أيضاً أن فعالياته تتوزع على أماكن عدة، وليس مكاناً واحداً، فالأعمال الفنية تعرض في متاحف الشارقة، وفي مجمّعات وفي ساحات وفي واجهات ميدانية مفتوحة تخدم الأعمال الفنية من ناحيتين.. الأولى، أن بإمكان الجمهور أن يشاهد أعمالاً فنية كالجداريات مثلاً والتجهيزات البنائية والأعمال التركيبية في أكثر من مكان في الشارقة، والثانية أن هذه الفضاءات المفتوحة تتيح رحابة العرض للأعمال الكبيرة وبخاصة الجداريات.

من خصائص المهرجان أيضاً أنه محلي إماراتي، وعربي، وعالمي، ويشارك فيه عشرات الفنانين من العالم بلا قيود أو مفاضلات أو أي اعتبارات أيديولوجية، أو تمييزية، والاعتبار الوحيد في المهرجان هو الإبداعية، والتفوّق، والجمالية، والالتزام ثقافياً بالثيمة أو الشعار الذي يطرحه المهرجان في كل عام، وفي الدورة الرابعة والعشرين دورة العام الماضي (2021) كان شعار المهرجان هو مفهوم أو فكرة «تدرّجات»، وفي هذه الدورة 25 للعام 2023 يأتي المهرجان تحت شعار «تجليات» ويأتي الشعار عادة ليكون قاسماً فكرياً وثقافياً بين عشرات الفنانين، وبالتالي وفي إطار أوسع من الحرية الفكرية تتحرّك أعمال المهرجان، وتلتقي أو تتوازى أو تتآلف ضمن المفهوم الثقافي العام الذي يطرحه المهرجان.

مهرجان الفنون الإسلامية هو مهرجان ثقافات كما أشرنا إلى هذا المعنى قبل قليل، فكل تجربة فنية تجهيزية، أو بصرية، أو فيديوية، أو حروفية، أو زخرفية إلى ما لا نهاية هي في النهاية تقوم على رؤية ثقافية أو تصوّر ثقافي يحمله الفنان نفسه، وبالتالي، إذا أردت القول فنحن فعلاً في خريطة حرّة من حوار الثقافات والحضارات والفنون والجماليات، وتتمثل هذه الخريطة الحرّة في الفن وفي مفرداته وفي أخلاقياته أيضاً.

يحيل تعبير «تجلّيات» إلى معانٍ عدة:.. الظهور، والكشف والوضوح والشفافية.. شفافية ما هو روحي على نحو خاص، وفي معاجم اللغة «جلا الحقيقة: أي كشفها ووضّحها، والجلاء: الأمر البيّن الواضح».

إن تجلي المعنى في النص الأدبي أو النص الديني مثلاً هو ظهوره ووضوحه، كما أن تجلي الضوء في اللوحة أياً كانت صورة أو خطية أو حروفية هو كشف ووضوح النور في اللوحة.. النور الذي يرمز إلى إشباع الروح بالمعنى النبيل.

إن كل ما يظهر ويتوضح هو على العكس تماماً مما يُضْمر وَيُبطن وَيُغلق عليه، والتجليات أو معنى التجلي يحيل أيضاً إلى الإشراق والامتلاء بالفكر والجمال.

أعمال المهرجان، إذاً، تطرح أفكاراً إلى جانب الجماليات والبلاغيات البصرية المعتادة، ومن هذه الأفكار: الصداقة، المحبة، التسامح، العدل، النظام، النظافة، الفرح، الإنسانية، الجمالية، الرحمة، اللطف... كل ذلك تحمله اللوحات والجداريات والأعمال اليدوية والحروفية والخطوطية، أي أن مفهوم الفنون الإسلامية لم يعد مفهوماً - ضيّقاً مُحَدّداً في الخط والزخرفة والنمنمة المرتبطة عادة بالمعمار بوصفها تراثاً متحفياً أو حتى فولكلورياً، بل، أصبحت الفنون الإسلامية تتغذى من الفكر والفلسفة والعلوم والمسرح والموسيقى والصوت والضوء وهي مشتركات ثقافية إنسانية قبل وبعد أي اعتبار آخر، ومن هنا، ندرك جيداً كيف أن المهرجان الذي ترتبط باسمه اعتبارية دينية (إسلامية) هو مهرجان فنانين مسلمين، وفي الوقت نفسه هو مهرجان فنانين ليسوا مسلمين، وهو مهرجان عرب، وفي الوقت نفسه يشارك فيه فنانون ليسوا عرباً، وبكلمة ثانية، لا طائفية ولا مذهبية ولا أيديولوجية، ولا تعصب ولا عصبية ثقافية أو مرجعية أو إثنية أو حتى فكرية في هذا المهرجان الإنساني، الجمالي، الروحي أيضاً، والنوراني والإشراقي في جميع المفردات الفنية التي تقوم عليها أعمال المهرجان، ومنها معنى «التجليات».

هذه الدورة من المهرجان هي الدورة «الربع قرنية» إن جازت هذه العبارة،.. فعلى مدى خمسة وعشرين عاماً ما الذي يمكن ملامسته أو معاينته من ظواهر أو حالات أو حيثيات أوجدها المهرجان في الثقافة المحلية أو الثقافة العربية على مدى هذه السنوات؟.

بلا شك، وبكل معاينة موضوعية لمهرجان الفنون الإسلامية نستطيع القول إن المهرجان جعل من ثقافة هذه الفنون ثقافة عالمية، وحين نقرأ طبيعة المشاركات الفردية والجماعية في المهرجان ندرك جيداً معنى القول إن المهرجان اكتسب أفقاً ثقافياً عالمياً، وإن محور هذا الأفق هو مكوّنات هذه الفنون، بدءاً من المعمار الإسلامي، مروراً بالزخرفة، وليس انتهاء بالهندسة والتشكيل الماثلين في هذه الفنون.

هذه المفردات الإسلامية صارت أساسية بالنسبة لثقافة الفنان غير العربي أو غير المسلم، وأخذ هذا الفنان يقرأ هذه المفردات من خلال مفاهيم ومصطلحات عربية إسلامية، وليس من خلال - مفاهيمه ومصطلحاته الغربية أو الأوروبية إذا اعتبرنا - أن الثقافة الغربية عموماً هي ثقافة هيمنة في بعض جوانبها، أو أنها ثقافة مركز، أو ثقافة «آخر» كولونيالي أحياناً، واستشراقي أحياناً أخرى، وبخاصة في ما يتعلق بمفاهيم الأدب «الرواية، والشعر» إذّ يرى الكثير من الكتاب العرب أن الكثير من المصطلحات النقدية المعاصرة تعود في تأصيلها وفي تنظيرها الثقافي والفكري إلى نقاد ومفكرين وفلاسفة غربيين.

في الفنون الإسلامية يختلف الأمر، وعلى سبيل المثال لا يستطيع أحد الزعم أن مفاهيم الخط العربي. خط الحرف العربي، وخط اللغة العربية لها مرجعيات غربية، بل، إن كل خطاب نظري أو نقدي يتصل بفنون الخط، والزخرفة، والهندسيات التشكيلية الإسلامية، إنما يعود إلى أصل عربي إسلامي صافٍ.

ظواهر أساسية

كرّس مهرجان الفنون الإسلامية ظواهر جمالية لم تكن أساسية في ثقافة المواطن العربي، أو عند الغالبية من الجمهور العربي، فالأساس في ثقافة العربي هو أساس شعري. إن الشعر هو ديوان العرب وديوان هوية العرب وديوان فكر العرب، والشعر بالنسبة للعربي «صوت» و«إيقاع» و«موسيقى»، أي أن الشعر بالدرجة الأولى بالنسبة للعربي هو مادة مسموعة، غير أن ثقافة الفنون الإسلامية وجّهت الإنسان العربي إلى المادة المرئية في هذا الشعر، والمادة المرئية هنا هي الحرف العربي أو الخط العربي، وتالياً، طاقة الحرف التشكيلية، وإيقاعاته، وموسيقاه، وبخاصة في الأعمال التشكيلية الحروفية.

ثقافة وفكر وفلسفة الفنون الإسلامية عبر دورات هذا المهرجان في الشارقة نبّهتنا إلى ما هو مرئي في الحرف العربي بعدما هيمن الشعر على ما هو مسموع في هذا الحرف العبقري الذي شغف به فنانون كبار، مثقفون، ومفكرون من الصين إلى آسيا إلى أوروبا إلى إفريقيا حيث أخذت هذه النخب، مرة ثانية، تنتبه إلى ما هو أبعد من الصورة التشكيلية للحرف العربي، أي أخذت تنتبه إلى ما هو موسيقي أو إيقاعي في هذا الحرف، وأخذت تنتبه إلى ما هو صوفي، وروحي، وتأمّلي - في هذه المادة الخطية العربية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/4dahh97r

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"