ابن خلدون معاصراً لنا

00:02 صباحا
قراءة دقيقتين

عاش عبد الرحمن بن خلدون خلال فترة من التحولات التاريخية المصيرية، شهد في مراهقته وفاة والده في الفناء الكبير أو الطاعون الأسود الذي اجتاح أوروبا وأنحاء من آسيا والشرق الأوسط بين عامي 1347 و1352م، وعاصر فترة اضطرابات سياسية امتدت في الشمال الإفريقي بأكمله، وتنقل بين تونس والمغرب والأندلس، وفي شيخوخته عاصر اجتياح تيمور لنك لبلاد الشام، وقابله وجهاً لوجه في وفد أرسله سلطان مصر المملوكي لمفاوضة تيمور على فك الحصار عن مدينة دمشق.

كانت حياته صاخبة جداً، ومن مشاهداته ورؤيته لتقلبات المجتمعات والدول ورحلاته هنا وهناك ابتكر علماً جديداً، وهو علم العمران، وفيه يحلل قوانين الاجتماع البشري.

وبرغم أن منطقتنا العربية تشهد تحولات متسارعة، في مختلف مفاصلها الاجتماعية، إلا أن تراجع علم الاجتماع العربي يظل لغزاً، وابن خلدون نموذج دال وواضح هنا والآن لعدة أسباب، فالعلوم والفنون والآداب تزدهر في مجتمعات تشهد نهوضاً واضحاً على مختلف المستويات، أو مجتمعات تعيش تحولات جوهرية. لقد درس ابن خلدون عصره واستفاد من تسارع أحداثه، وخرج بنتائج أدت إلى تأسيس علم كامل، وهو نموذج ينتمي إلينا، ولقد حاول بعض المثقفين العرب الحداثيين استلهامه، ولكن جاءت كتاباتهم مفكرنة بالدرجة الأولى، لا تلتفت إلى قوانين الاجتماع وآلياته ومناهجه.

ابن خلدون، بشخصه وأفكاره وحتى زمنه، معاصر لنا، فمن أوضاع مضطربة إلى عولمة مصحوبة بتأثيرات اقتصادية وسياسية، إلى تكنولوجيا تمتد تأثيراتها إلى جوهر الثقافة العربية، تحتاج مجتمعاتنا إلى رؤية خلدونية جديدة، رؤية تستوعب تطورات العصر وأيضاً إضافات علم الاجتماع الحديث.

تحتاج مجتمعاتنا الآن إلى عالم اجتماع يمتلك حساسية من نوع خاص، يعيش بين الناس ويدرك التغير الواضح في بنى المجتمع: طبقاته وقواه الفاعلة وثقافته وأفكاره وأخلاقياته، الأصيل منها والدخيل، لا ينعزل في مختبر أو برج عالٍ، ولا يضع النتائج قبل المقدمات، ويتخلص من القوالب الجاهزة في النظريات البحثية، والرؤى النمطية والصور الذهنية المعروفة، فحراك البشر على الأرض أوسع من كل ذلك بكثير.

احتفى الغرب بابن خلدون قبلنا، والتفت إليه الكثير من المفكرين العرب منذ طه حسين وحتى محمد عابد الجابرى مروراً بساطع الحصري وغيرهم، وهناك من وثّق ببليوغرافيا خاصة بالدراسات التي كُتبت عنه، وتصل في أحد التقديرات إلى 800 دراسة، ومع ذلك يبقى فكر ابن خلدون الاجتماعي، وهو بحسب طه حسين أحد أهم علمين أنجبتهما الحضارة العربية الإسلامية - الآخر هو أبو العلاء المعري، يتيماً حتى إشعار آخر.

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/43xksp9p

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"