عادي
نحن والآخر

حرية العقيدة.. لا إكراه في الدين

23:21 مساء
قراءة 4 دقائق
1

لم يشهد التاريخ الإسلامي كله، على مدى أكثر من 1400 عام، واقعة واحدة تم فيها إجبار أحد على الدخول في الإسلام، بل كانت- ولا تزال- الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ لقد خاطب رب العزّة جلّ في علاه، رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125)، وقوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159)، كما كان شعار الإسلام الدائم فيما يخص العقيدة {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256)؛ فالله تعالى خلق الكون كله قائماً على سُنة الاختلاف، ومن ذلك اختلاف الألوان والأجناس والعقائد، حتى أنه سبحانه وتعالى يرزق مَنْ لا يؤمنون به، بل ربما يزيد عطاؤه لهم في الدنيا!! فسبحانه وتعالى القائل: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود: 118)، وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29).

إن ديناً هذا شأنه في التعامل مع الآخر، هل يمكن أن يكون رسوله بغير هذه المبادئ السامية؟ أو أن يكون معتنقوه على غير هُدى في حياتهم ومعايشتهم مع الآخر؟ إن السيرة النبوية الشريفة زاخرة بالمواقف النبيلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اعترافه للآخر بحرية العقيدة، بل وإفساح المجال له لممارسة شعائره، قال الله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (الحج: 40). وقد سار على نهجه صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام رضوان الله عليهم، والتابعون، ومَنْ أتى بعدهم، حتى وقتنا الحاضر.

يذكر ابن هشام في «سيرته» أن النبي صلى الله عليه وسلم سمح لوفد نصارى نجران بممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية في المسجد؛ فعن محمد بن جعفر بن الزبير أن وفد نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلوا عليه في مسجده حين صلى العصر... وقد حانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دَعُوهُم»، فاتجهوا إلى المشرق، وصلوا صلاتهم. كما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أساقفة نجران: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي للأسقف أبي الحارث، وأساقفة نجران، وكهنتهم ورهبانهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل وكثير- جوارُ الله ورسوله، لا يُغيَّر أسقفٌ من أسقفته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، ولا يُغيَّرُ حق من حقوقهم، ولا سلطانهم، ولا ما كانوا عليه من ذلك، جوارُ الله ورسوله أبداً ما أصلحوا ونصحوا عليهم غير مُبتَلَيْن بظلم ولا ظالمين». وجاء في كتابه صلى الله عليه وسلم، إلى ملوك حِمْيَر: «وأنه مَن أسلم مِن يهودي أو نصراني، فإنه من المؤمنين، له ما لهم وعليه ما عليهم، ومَن كان على يهوديته أو نصرانيته، فإنه لا يُفتَن عنها، وعليه الجزية».

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في أوج انتصاره على مَنْ آذوه وأخرجوه من أحب البلاد إلى الله وأحب البلاد إلى نفسه، وقد عاد إليهم في «فتح مكة»، لم يجبر أحداً على ترك دينه وعقيدته الوثنية، والدخول في الإسلام، وكانت دعوته دائماً- ولا تزال- قائمة على الحُسنى، وقد قال الله تعالى له: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} (ق: 45). وقال جَلَّ شأنه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} (يونس: 98 و99). وكان صلى الله عليه وسلم قد ترك لليهود في المدينة، بعد هجرته إليها، حريتهم وما يعبدون، ونص على ذلك في أول دستور للدولة الإسلامية، والمعروف ب«صحيفة المدينة»، حيث جاء فيها: «لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم».

لا حرب

كما أنه صلى الله عليه وسلم، لم يستجب لطلب طفيل بن عمرو الدوسي بأن يحارب قومه حتى يدخلوا في الإسلام، وقال له: «عُدْ إلى قومك، فادعهم وارْفق بهم». كما لم يستجب رسول الله صلى لله عليه وسلم لطلب أحد أصحابه من الأنصار حين سأله أن يحمل ولديْه على اعتناق الإسلام بالقوة، فرفض رسول الإنسانية الأعظم، ونزل في ذلك قول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 256). وقال الله تعالى لرسوله الكريم: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (الغاشية: 21 و22).

حتى في أوقات الحروب، حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يوصي أصحابه من المجاهدين في سبيل الله، بعدم التعرض لأهل الأديان الأخرى، وتركهم وشأنهم، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تغدروا، ولا تقتلوا وليداً، وستجدون رجالاً في الصوامع معتزلين الناس، فلا تعرضوا لهم، ولا تقتلوا امرأة ولا صغيراً ولا كبيراً فانياً، ولا تحرقوا نخلاً ولا تقلصوا شجراً، ولا تهدموا بيتاً».

إن شريعة الإسلام لا تكره أحداً على اعتناق الإسلام، بل إنها تمنح الآخر كل حقوقه في مختلف مناحي الحياة، ومن ذلك حرية العقيدة. يؤكد الشيخ محمد الغزالي، في كتابه «حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة»، أن القرآن الكريم قد تناول المعارضين له والكافرين به بأساليب شتى، ليس من بينها قطُّ إرغام أحد على قبول الإسلام وهو عنه صادّ، كل ما ينشده الإسلام أن يُعامل في حدود النَّصَفَة والقِسط، وألا تدخل عوامل الإرهاب في صرف امرئ انشرح صدره به. ويضيف أن الإسلام لم يفرض على النصراني أن يترك نصرانيته، أو على اليهودي أن يترك يهوديته، بل طالبَ كليهما- ما دام يؤْثِر دينه القديم- أن يدع الإسلام وشأنه، يعتنقه مَن يعتنقه، دون تهجم مُر، أو جدل سيئ.

ويشير الغزالي إلى أن الحرية الدينية التي كفلها الإسلام لأهل الأرض لم يعرف لها مثيل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/364yb45b

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"