عادي
في شاعرية البصر

الحب..الروح ترفرف في الخيال

14:56 مساء
قراءة 3 دقائق
محمد فاروق الحداد

الشارقة: جاكاتي الشيخ
الخطاط السوري محمد فاروق الحداد، واحد من الفنانين المتميزين في الخط العربي، وخاصة في أنواعه الصعبة مثل الديواني الجلي والثلث الجلي المركب، حيث يمتاز أسلوبه بالمرونة والتجديد، وهو ما مكنه من تنفيذ تراكيب خطية لافتة من حيث الجمال وطريقة التكوين، ليحصل على عدة جوائز دولية.

استطاع الحداد باعتماده على مرونة الخط وسعة الخيال أن يقدم الكثير من اللوحات الفنية الرائعة، مثل اللوحة التي نتناولها هنا، وهي عبارة عن خطٍّ لشطرِ بيت شعري للشاعر سلطان العويس، يقول فيه: «أحيا؛ أموتُ وأنتِ السرُّ في جسدي»، فهي لوحة تبرز فيها قدرته على إتقان خط الديواني الجلي الذي لا يتمكن من الإبداع فيه بهذا التميز إلا القليل من الخطاطين المهرة، بالإضافة إلى أنه يظهر فيها بصمة خاصة تميّزه بأسلوبه عن سواه من المشتغلين في مجال الخط.

*تجسيد شاعري

أراد الحداد لهذه اللوحة أن تكون بخط الديواني الجلي لما يتمتع به هذا الأسلوب من جماليات، وهي جماليات تمنحه قابلية التشكيل الفني الذي يسعى إليه الخطاطون، إذ يتطلب خبرة كبيرة في التمكن من خصائصه وقواعده ومقوماته الأساسية، وخاصة قابلية حروفه للالتواء والاستدارة والتداخل، والتي تشكل مخاطرة من طرف الخطاط قد تشوِّه الشكل العام لعمله، إلا أن الخطاطين المهرة لا يعيرون تلك المخاطرة بالاً، ويسعون من خلال تلك الخصائص إلى تقديم أشكال مبتكرة، تبرز فيها قدرتهم على تشكيل الجمال، وشدِّ انتباه المتلقي، وهو ما تمكن منه الحداد في هذه اللوحة.

إن اختيار الحداد للشطر الشعري: «أحيا أموتُ و أنتِ السرُّ في جسدي» ليكون مضموناً للوحته، اختيار ينم عن فهم عميق لمستوى الشاعرية الطاغي في النص، وهو ما جعله يسعى إلى نقل تلك الشاعرية بصرياً، فحين يقول الشاعر إن محبوبته ستظل في جسده حيا أو ميتاً، فهو لا يجعل حبها مجرد حلول في روحه، بل تحل في جسده أيضاً، فحتى وإن غادرت الروح الجسد، فستظل تلك المحبوبة منشطرة ذاتياً مع الشاعر المُحب، كما انشطر هو نفسه بين روح وجسد، فهي سرِّ وجوده وسرِّ خلوده، وهو تعبير شاعري في غاية الجمال والابتكار، ويستحق أن يجسّد في عمل إبداعي مثل هذه اللوحة الجميلة.

*تشكيل

خط الحداد كلمات النص بأسلوب ديواني جلي فائق الإتقان، فكتب «أحيا» و«أموت» في نفس المستوى من الارتفاع، ليماثل بينهما في الشكل كما ماثل الشاعر بينهما في التعبير، وجعل «وأنتِ» في قلب الشكل الخطي، ليوحي بأن المحبوبة في قلب الشاعر، فهي السّر في جسده، ولذلك جعل كلمة «السر» في نفس المستوى أيضاً مع «أنتِ» ليماثل بينهما أيضاً، كما يماثل الشاعر بينهما في المعنى «أنتِ السر»، وجعل «في» أسفلَ كلمة «جسدي»؛ والتي جاءت جيمها حاضنة لكل النص، موحياً بشكل القلب، الذي يرمز للحب في أبهى تجليّاته، فيما كتب الألفات ولام «السر» بِالْتِوَاءات محكمة، وأدار ولَوَى بعض حروف الكلمات أيضاً، مستفيداً من مميزات هذا الأسلوب الخطي المَرِن.

واختار الحداد ألواناً محدودة للوحته لتعكس ما يريد إيصاله للمشاهد، في التقاطات جمالية آسرة، فكتب النص الداخلي باللون الأسود مع بعض المسحات الرمادية، لتبدو اللوحة لمن يتحرك قبالتها وكأنها تَرف كما تَرف الروح في الخيال، فيما كتب جيم كلمة «الجسد» الحاضنة للنص بلون بُني يميل إلى الحمرة تعبيراً منه عن قوة الارتباط وعمق عاطفة الحب، بالإضافة إلى أنه أصبغ على اللوحة مسحة زخرفية من خلال الحركات والشدات والخطوط الصغيرة والنقاط المالئة للفراغات، وكذلك من خلال حركة الفتحة المُزَيَّنة التي وضعها خارج نطاق النص، وهي كلها لمسات من صميم خصائص خط الديواني الجلي.

لقد أبرز محمد فاروق الحداد من خلال هذا العمل قدرته على تشكيل الجمال، من خلال الخط العربي، ليمنح المشاهد لوحة فنية رائعة، تضفي على روحه راحة نفسية أليفة، تأخذه إلى أعماقه، ليسامر الحب والجمال ويحلق بذوقه الفني في فضاء الإبداع الفسيح.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4m9zwj7w

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"