بدلة جوخ رمادية.. بنّية

00:05 صباحا
قراءة دقيقتين

يصف دوستويفسكي ألوان ثياب السجناء في المعتقل الذي زُجّ فيه نحو أحد عشر عاماً في سيبيريا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكانت تلك الثياب يتألف بعضها من صدريات من الجوخ لونها بين البنّي والرمادي «وفي ذات يوم، بينما كنّا في الشغل، جاءت بنت صغيرة تبيع سميطاً مصنوعاً من الدقيق الأبيض، فنظرت إليّ طويلاً، ثم انفجرت ضاحكة، وصاحت قائلة:هِهْ، ما أبشع منظرهم، إنهم لا يملكون حتى ما يكفي لصنع ملابسهم من جوخ رمادي، لكن أكمامها بُنّية».

وإذا كانت طفلة صغيرة قد اشمأزت من هذا الجوخ الرمادي البنّي بحسّها الجمالي العفوي وأخذت تضحك من هذا المنظر الغريب، فما بالك بالسجين نفسه، الذي يترتب عليه أن يرتدي هذه الثياب عشرة أو عشرين عاماً متواصلة، وكل تلك الأيام هو رمادي بنّي؟ وعلى نحو ما ربطت بين الألوان والتعذيب، أو إن كان العقل البشري اخترع وسيلة للعقاب بالقماش الملوّن على هذا النحو الذي يبعث على التوتر، وربما يصل الأمر إلى الجنون.

تخيّل رجلاً أو امرأة يرتدي أحدهما ثياباً حمراء أو بنفسجية أو صفراء سنوات عديدة، حتى يعتقد أن لونه البشري صار أصفر مع مرور الوقت، هذا وهو حرّ طليق في الهواء، وتحت الشمس.

اخترع الإنسان من أجل أخيه الإنسان وسائل عديدة للتعذيب أسوأها تلك التي جاءت في كتاب «تاريخ التعذيب» ونقله إلى العربية ممدوح عدوان، ومنها، مثلاً، ربط الرجل في دولاب والدوران به إلى أن يفقد صوابه، يُجَنّ، أو يدوخ أو يُصاب بالصرع، لكنه قد ينجو بعد حفلة الدوار هذه إذا كان محظوظاً أو على قدر من قوة الإرادة والصبر. ولكن ما المصير الأسود الذي سيؤول إليه ذلك الذي يجري إلباسه ثياباً من الجوخ أو الحرير، ولكنها بلونين متناقضين تماماً،؟ ولاحظ هنا قسوة وفظاظة المفارقة اللونية أو التشكيلية بين الرمادي والبني على سبيل المثال فقط. ومرة ثانية، وعلى نحو ما ربطت في هذه الحالة التشكيلية بين رسّام ما، وبين رجال السلطة، مثلاً، في ذلك المعتقل السيبيري. ألا يكون أحد الرسّامين هو من اقترح هذين اللونين لقماش الجوخ ذاك، لكي تتحوّل ضحية الثياب تلك إلى خرقة رمادية بنّية مثل فزّاعة تصنع ذلك الشيء المرعب الذي اسمه «الغثيان» الجسدي، والوجودي، ولحظتها يتمنى البشري الموت، مع أنه ليس في دولاب، بل ها هو لا شيء حوله وأنه بكل ثيابه، وبكامل هدوئه أيضاً.

بعض المفكرين، وبعض الفلاسفة والمنظرين في الأدبيات الكارثية التي يحتاجها كخدمات نظرية مثل أولئك المديرين في السجن السيبيري، هم أيضاً مثل الرسام الذي اقترح ذلك الزيّ الفظيع لدوستويفسكي ورفاقه قبل أكثر من قرن ونصف القرن من الزمان، وإلى اليوم لا يكف هؤلاء «المثقفون» المستشارون ذوو الاختصاصات السيكولوجية عن تقديم خدماتهم الفكرية المرعبة، وإن كانت هذه الخدمات لا صلة لها لا بالقماش، ولا بالألوان.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4sx8h9uh

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"