عادي
مأخوذ عن كتاب لاقى رواجاً منذ صدوره 2017

«السلاحف على طول الطريق».. إضاءة على مخاطر الوسواس القهري

23:12 مساء
قراءة 5 دقائق

مارلين سلوم

جذب علم النفس الكتّاب وحرّضهم على تأليف روايات تبلل أطراف أقلامها بحبر الخيال لترسم لوحات وقصصاً واقعية إلى أبعد حد، ومن أكثر ما أغرى المؤلفين انفصام الشخصية (الفصام) وعقدة أوديب وما تسببه الصدمات التي قد يتعرض لها الإنسان في طفولته أو مراهقته من اضطرابات تتحول إلى عُقد تأخذ غالباً في الروايات منحى الإجرام.. ومع تطور الزمن اتجه المؤلفون نحو قضايا وأزمات نفسية موجودة منذ زمن ولكنها لم تطرح أو لم تتم معالجتها درامياً، مثل «الوسواس القهري» الذي تناوله الكاتب الأمريكي جون جرين في كتاب «السلاحف على طول الطريق» ولاقى رواجاً كبيراً خصوصاً بين الشباب والمراهقين منذ صدوره عام 2017، وقد تحوّل إلى فيلم بنفس الاسم «تيرتلز أول ذا واي داون» وتعرضه حديثاً بعض المنصات، بمعالجة درامية رومانسية اجتماعية في قالب ظريف تحمل رسائل إنسانية.

تعتبر روايات جون جرين بمثابة «يوميات للشباب»، يتصفحونها فيشعرون بأنها تعبّر عن أجندة يومهم وأفكارهم، ولأنه يكتب بلغة الشباب والمراهقين ويعرف كيف يخاطبهم ويقدم أفكارهم بأسلوب مبسط، كان لا بد للمؤلفين إليزابيث بيرجر وإسحاق أبتاكر أن يراعيا هذه السلاسة في تحويلهما الورق إلى عمل سينمائي، تعاونا فيه مع المخرجة (والممثلة) هانا ماركس. مثل تلك الأفلام لا يتطلب اختيار أشهر النجوم الشباب لأداء أدوار البطولة، لأن القصة هي البطل الحقيقي، والمهم أن يجسدها على الشاشة ممثلون لديهم الكفاءة والموهبة والكاريزما للارتقاء بالأداء إلى المستوى المطلوب، وجذب الجمهور خصوصاً الشباب إلى متابعة الأحداث والتعاطف مع بطلتها الرئيسية إيزا، المصابة بالوسواس القهري والذي يتم اختصاره ب «أو سي دي» ويكثر تداوله في زمننا هذا بين الشباب كلما أرادوا التحدث عن أحد المهووسين بالنظافة.

الصورة
1

اسم غريب

اسم الفيلم غير جاذب، بل تستغربه وتتوقع أن يكون للسلاحف علاقة بالقصة بشكل مباشر، ويبقى السؤال يدور في بالك عن علاقة إيزا المصابة بالوسواس القهري بهذه الكائنات، حتى تفهم أن «السلاحف على طول الطريق» هو ​​تعبير يشير إلى فكرة اللانهاية، وأن كل تفسير لأي شيء يتطلب دائماً تفسيراً إضافياً، بل ويتم استخدامها أيضاً عند الحديث عن طبيعة الكون، وعن الأشياء التي يكون لها بداية ولا تعرف لها نهاية وكأنها تلف في دوامة مستمرة.. والوسواس القهري الحاد وهو الأكثر عمقاً وتعقيداً من وسواس النظافة البسيط الذي تجده لدى فئة من الناس، مرض عقلي يجعل المريض يغرق في دوامة الحديث الباطني، حيث يطغى صوت العقل المصاب بالخوف والهواجس فيجبر صاحبه على العزلة والابتعاد عن التلقائية وتعقيد الأمور والتفكير في أدق التفاصيل وأبسطها وتضخيمها بشكل هستيري أحياناً.

القضية التي يتناولها الفيلم هي أهم ما فيه، والمخرجة هانا أرادت تجسيد الحالة النفسية التي تعانيها البطلة إيزا (إيزابيلا ميرسيد) المراهقة ابنة ال 16 عاماً، خجولة تعاني الوسواس القهري، وعادة ما تجد نفسها في دوامة مدمرة من الأفكار التي تسرق منها فرحتها أو حتى القدرة على الاستمتاع بالحياة، هواجس تلاحقها حول العدوى والميكروبيوم البشري، ومن هنا ينطلق الفيلم بأحداثه حيث نسمع البطلة تتحدث بالصوت عن أن 50% من جسم الإنسان مكون من ميكروبات، وتسرد معلومات علمية تؤكد لك منذ البداية أنها وصلت في مرضها إلى مراحل متقدمة جعلتها تبحث عن كل المعلومات التي لها علاقة بالفيروسات والميكروبات، وتشاهد مقاطع فيديو لعلماء ولمحللين نفسيين.. ورغم متابعتها مع طبيبة نفسية، إلا أنها تتهرب من بعض الجلسات وترفض تناول الأدوية بانتظام.

صوت الوسواس

نجحت المخرجة في جعل صوت العقل أي صوت الوسواس مرافقاً لإيزا ويطغى أحياناً كثيرة على كل ما يدور حولها، ولتقرب المسافة بين المشاهد وما تشعر به أو يتراءى للفتاة وهي تتناول وجبة طعام في كانتين مدرستها، أو حين تخرج مع صديقتها الوحيدة ديزي (كري) وهي النقيض تماماً لإيزا، مندفعة تحب الحياة وتستمتع بكل ما تأكله وتشربه.. وكأننا في مختبر وأمام ميكروسكوب، نرى الجراثيم تتنقل وتتفاعل، وهو ما تتخيله إيزا مع كل موقف، فتسمع صوت عقلها الذي يسحبها إلى الدوامة نفسها، ويخبرها بأن ما أكلته أو لمسته مملوء بالميكروبات وأنها من المؤكد انتقلت إلى جسدها واختلطت بدمها، فتسرع إلى الحمام تجرح إصبعها لينزف قليلاً ثم تقوم بوضع معقم عليه كي «يعقّم دمها» فيقضي على كل تلك الكائنات الصغيرة غير المرئية، لذلك تحمل في حقيبتها باستمرار لاصق للجروح.

ديزي تعرف جيداً الحالة القهرية التي تعانيها صديقتها وتحاول دائماً تشتيت أفكارها كي لا تستغرق في دوامتها، بينما تسعى جينا والدة إيزا (جودي رييس) جاهدة لكسر جبل الجليد بينها وبين ابنتها والذي حصل منذ أن تُوفّي زوجها أمامها وأمام إيزا حين كانت طفلة، الأب كان الأقرب إلى ابنته ويتفهم حالتها المرضية ويحاول مساعدتها على تخطيها بينما ترى أن والدتها لا تجيد التعامل معها واستيعابها بكثرة الملاحظات التي تبديها.

وفاة الأب المفاجئة زادت من حالة إيزا التي تسوء حالها لدرجة أنها تسمع أصوات أمعائها بعد تناول وجبة طعام، يُخيل لها أنه صوت معركة تدور في داخلها بسبب الميكروبات التي دخلتها مع الطعام!

لاشك أن القصة ليست محصورة بإيزا ومرضها، بل تأخذ منحى آخر حين تعلم الفتاة باختفاء الملياردير راسل بيكيت والد صديق طفولتها ديفيس (فيليكس مالارد) وأنه تم تحديد مكافأة 100 ألف دولار لمن يجده، تعتقد إيزا أنها تستطيع معرفة موعد وكيفية خروجه من قصره فتعرض عليها ديزي الذهاب إلى هناك بغية الحصول على المكافأة؛ تتطور الأمور فتلتقي الفتاة بديفيس وتنشط العلاقة من جديد وتصل إلى حد المصارحة بالإعجاب المتبادل، وهنا تدخل إيزا في دوامة أكبر، وهي خوفها من الاقتراب من ديفيس لسببين، أولاً خوفاً من التقاطها أي جراثيم أو عدوى منه وثانياً الخوف من التعلق به ومن ثم خسارته كما خسرت والدها.

المضمون ميزة

ميزة الفيلم كما قلنا في المضمون أكثر من أسماء أبطاله، وإن كان الأداء جيداً، وقد لعبت النجمة ديبي راين دور ضيفة شرف وجاء مرورها عابراً في مشهد صغير ليس أكثر، كما شاركت المخرجة هانا كممثلة بظهور بسيط خلال الأحداث؛ وميزة الفيلم أيضاً أنه يعرض حالة مرضية لا نراها على الشاشة غالباً، ويحمل رسالة يوجهها مباشرة إلى الشباب والمراهقين لتوعيتهم من مخاطر الوسواس القهري الذي قد يؤدي بصاحبه إلى الدخول في مراحل صحية خطيرة جداً، مثل الحالة التي وصلت إليها إيزا حين أصيب كبدها بنزيف بعد حادث تعرضت له وصديقتها بسيارتها فأدخلوها رغماً عنها المستشفى، حالة هستيرية دفعتها لتناول المعقم بشراهة لاعتقادها بأنه سيعقم دمها ويقتل كل الميكروبات التي التقطتها في المستشفى.. تشعر وكأنها دمية روسية لا نهاية لها لشخص ما، غير قادرة على العثور على نفسها بين الطبقات. ينتهي الفيلم بشرح حالة الوسواس القهري بتشبيهه بالدوائر المتداخلة التي لا تنتهي وبالدمية الخشبية الروسية التي كلما فتحت العلبة وجدت نسخة منها أصغر حجماً، ما يعكس محاولتها اكتشاف ذاتها وفهمها، فكلما فهمت جانباً اكتشفت جوانب أخرى أكثر تعقيداً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5yy8f5s9

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"