المشّاء غالب هلسا

00:05 صباحا
قراءة دقيقتين

صيف 1986، المكان: مقهى «الهافانا» في دمشق، الوقت: الضحى وقبيل الظهيرة، يرى الشاعر الشاب، آنذاك، للمرة الأولى، مظفر النواب بثياب بيضاء خفيفة، وهدوء مكتمل، يكتب شيئاً ما بقلم حبر سائل أسود، وبخط رفيع صغير. الشاعر الذي كالرعد على المنبر بثياب بيضاء، هادئ، صموت، لا تكاد تسمع صوته، بل أقرب إلى الخجل وأمامه فنجان قهوة أنيق يتماثل مع أناقته.

كان الشاعر الشاب، آنذاك، يبحث عن غالب هلسا، ابن ماعين جنوب غرب مأدبا الأردنية، مدينة المسلم جار المسيحي، ومدينة خرائط الفسيفساء، والمآذن العالية، وأجراس الكنائس، وحولها بساتين وحقول الذرة والقمح والبامية. آنذاك في سبعينات القرن العشرين، زمن ذلك الطفل الذي كان يبيع البندورة وعبّاد الشمس في الضحى،

سينتظر غالب هلسا في «الهافانا»، لكن الرجل طويل القامة ذا الشعر الأبيض لم يأتِ إلى الصالحية في ضحى ذلك اليوم. «لا بأس سأنتظره حتى الليل».

كان ذلك الشاعر الشاب قد ولد في القوس الأحمر الأرضي الذي يشبه أكباد الطيور.. القوس الذي ولد فيه غالب، وخرج سريعاً إلى بغداد، فالقاهرة، فبيروت، فدمشق، ولكنه سيعود أخيراً إلى ماعين، القصيدة البرّية المعلّقة على الجبال.

عند حوالي العاشرة ليلاً يُتاح للشاعر اصطياد الروائي ذي الشعر الأبيض، وحين قال له إن مسقط رأسه لا يبعد كثيراً عن ماعين سأله غالب: «أتقصد أنك ولدت في جبل نيبو؟»، فقال الشاعر: تحت الجبل، هناك في تلك الأعالي الصديقة القريبة من «عيون موسى».

ليست هنا القصّة، بل هي قصة تلك الليلة الدمشقية التي ترافق فيها الشاعر الشاب والروائي الأشيب. الشاعر يرى في الروائي صورته البرّية، والروائي يرى في الشاعر صورته المفقودة التي تركها في تلك القرية الجبلية المسمّاة: «قصيدة».

من الصالحية إلى كل دمشق، في تلك الليلة الصيفية. مشي، وحكي، وضحك، وأحياناً صمت. وسوف يرتبط المشي في تلك الليلة بذاكرة الشاعر. إنه مشي الروائي.. مشي غالب هلسا إلى كل أنحاء دمشق. كان يمشي ويتكلم، يمشي إلى مكان، ويمشي إلى لا مكان. وسوف يمشي الشاعر إلى جانب الروائي، وببساطة، يكتشف الشاعر أن حياة الروائي هذا كلها ما هي إلا قصة مشي، أو قصة المشي.

لم يكن من الضروري أن يتكلم الروائي وهو يمشي، ولكن، أحياناً، كان يسأل تلك الأسئلة الصغيرة التي قد تعيده كلّه في تلك اللحظة إلى ماعين.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4w4kmp7w

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"