عادي
في شاعرية البصر

الحرف العربي.. لحظة جمالية تعزلنا عن همومنا

23:43 مساء
قراءة 3 دقائق
جمال الترك

الشارقة: جاكاتي الشيخ

ولد الخطاط الأردني جمال عبد الكريم الترك سنة 1966، واهتم بالخط العربي في سن مبكرة؛ حيث كان في البداية شغوفاً بالبحث عن اللوحات الخطية، في المجلات والكتب واللافتات، ومحاولة فهم جمالياتها، والتدقيق في مميزاتها، ليدخل المجال بالتجريب والتدريب والممارسة والدراسة، حتى صار واحداً من أهم الخطاطين الأردنيين المعاصرين، الذين ترتكز عليهم الحركة الخطية في بلده وفي الوطن العربي.

بدأ الترك يجني ثمار مثابرته الإبداعية بحصد مجموعة من الجوائز؛ أولاها درع التفوق الفني من الجامعة الأردنية سنة 1988، والمشاركة في العديد من المعارض والمهرجانات الخاصة بالخط التي أقيمت في الأردن منذ 1986، لينطلق بعد ذلك في حصد الجوائز الدولية، بداية بجائزة الكوفة للخط العربي، في خط الثلث بمهرجان بغداد العالمي الثاني للخط العربي والزخرفة الإسلامية 1993، والجائزة الأولى على مستوى العالم في خط النسخ بالدورة الثالثة من المسابقة الدولية / إرسيكا 1994، وحصل على جائزتين في خط الإجازة والخط الديواني في الدورة الرابعة من ذات المسابقة سنة 1998، وجائزة من مهرجان الجزائر الدولي للخط العربي 2010، وغيرها، كما شارك في كتابة أكبر مصحف بالعالم في مهرجان طريق الحرير بدمشق 2005، وكتابة مصحف الملكة علياء بخط الثلث والنسخ، وشغل عضوية لجان عدة مسابقات، وأعد وقدم بعض البرامج التلفزيونية التعليمية حول الخط العربي.

  • براعة

ورغم براعته في مختلف أنواع الخط العربي، فإنه ينحو من خلال لوحاته إلى الاستلهام من القواعد والأسس التي تضبط ذلك الخط، مع بعض التحرر في التنفيذ، متمثلاً طبيعة كون الفنان لا يخضع لقانون صارم؛ لأن ذلك يحول دون الإبداع الحقيقي الذي يعني التجديد بشكل دائم، فبدونه لا يمكن للوحة أن تجذب الجمهور، ولا أن تنال إعجابه، وهو ما تمثله اللوحة التي بين أيدينا.

اشتغل الترك في هذه اللوحة على كتابة شطر شعري شهير لأحد العارفين، يقول فيه: «اِلزَم العُزلةَ تَنج»، وقد خطه بتركيب خط الثلث الجلي، بتنفيذ محكم ضبط فيه قواعده وموازينه الصعبة، واستغل مرونته لبراعة تأليف الحروف، ومتانة تركيب الكلمات، بدقة تراعي الابتعاد عن أي قصور قد يشوّه جمال اللوحة، كما راعى الاقتصاد في استخدام الحركات والتشكيلات ليضفي على اللوحة لمسة فنية خاصة.

وقد كان اختياره لهذا النص دليلاً على حسه الإبداعي؛ لأن العزلة رفيقة المبدع، ولأن هذا النص يدعو إلى الاختلاء بالنفس، والابتعاد عن الناس، إلا للضرورة، فعادة ما ينجو الذين يركنون إلى العزلة من كل ما قد يسببه دوام الاختلاط بالناس من مشاكل، فهو اختلاط لا يفضي في الغالب إلا إلى الخوض في شؤون الآخرين، والاطلاع على خصوصياتهم وعيوبهم ومشاكلهم، ما يؤدي إلى الاصطدام بهم، والذي ينعكس بدوره على نفسية الشخص وراحته، فالأولى لمن يريد النجاة بنفسه أن يلزم العزلة، ولا يختلط مع الآخرين إلا في الحدود التي يكون مضطراً فيها لذلك.

  • رُقِيّ

إن الأسلوب الذي نفذ به الترك هذه اللوحة ينم عن قدرة إبداعية حقيقية، فقد استغل خاصية غلظ الخط في الثلث، ليشكل تكويناً بديعاً، فاعتمد التسلسل الذي يساعد المشاهد على قراءة اللوحة، وبدأ بخط كلمة «الزم» في الجانب الأيمن من قاعدة الشكل، مع خفة في التركيب لتبدو واضحة لاستئناف القراءة، ثم أتبعها بكلمة «العزلة» التي انطلق في خطها من قلب اللوحة ليجعل جزءاً منها في قاعدتها، وذلك بتركيب يستحوذ على جلّ مساحة التصميم الخطي؛ لأن العزلة هي موضوع اللوحة، فكتب التعريف واصلاً حرفي الألف واللام، ثم كتب حرف العين بشكل كبير وبارز؛ سمح له بأن يركب عليه مقاطع كل الكلمات، وكأنه يريد التنبيه على مركزية كلمة «العزلة» في العمل، فيما خط كلمة «تنج» في المستوى العلوي للشكل، ليوحي بما تمثله من قيمة علوية، تجعل الملتزم بها في راحة تبعده عن كل منغصات الحياة الطبيعية، فقد أراد من خلال تركيب حرف الجيم من «تنج» على «العزلة»، ومدِّ حرف اللام من «العزلة» لتتسلق عليه «تنج» في علوّها؛ أن يؤكد أن العزلة هي القاعدة الصلبة والأساس الذي تقوم عليه النجاة في هذه الحياة، إلا أن قيمة العزلة تثبت وجود الخيرين والطيبين فيها أيضاً.

هكذا استطاع الفنان جمال الترك أن يقدم لنا عملاً فنياً راقياً، يرتكز على أصول الخط العربي، من خلال واحد من أهم أنواعه، وينحو نحو التجديد من خلال الطابع التشكيلي الواضح، في النقطة المثبتة في مركز اللوحة، واللوح المستطيل في يسارها؛ المحتوي على تصميم مصغر للوحة، وكأنه يريد أن يرمز بتلك النقطة وذلك التصميم المصغّر إلى العزلة لأن العزلة انزواء، وهذه اللوحة بألوانها الإيجابية التي تمزج بين العاطفية والمنطقية لوحة انزواء جماليّ آسر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/52fdpjef

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"