التراجع الفكري مستمر

03:50 صباحا
قراءة دقيقتين
يحيى زكي

في عقد التسعينات من القرن الماضي دارت حوارات طويلة وممتدة في ساحة الفكر العربي حول دور النخبة وأهميتها، وكان مصطلح النخبة آنذاك يشير غالباً إلى المثقفين من منتجي الأفكار والأدب والفن، وانتهت تلك الحوارات إلى نتائج ذات عناوين براقة مثل الإعلان عن نهاية المثقف أو سقوط النخبة أو صعود الشعبوية، وهي نتائج اتسقت مع ثلاثة معطيات واقعية، الأول التأثر بأطروحات ما بعد الحداثة ورواج مقولات غربية مثل «موت المؤلف» و«موت الأفكار الكبرى»، والثاني نقد مكثف وجهه الكثيرون إلى المثقف العربي خاصة في ما يتعلق بالتعبير عن تطلعات شعوبنا وقضاياها، والثالث تجاوب مع الثورة التكنولوجية التي انطلقت في ذلك العقد ولم تكن في بداياتها أو مساراتها لاحقاً متسقة مع طرائق المثقف التقليدي في العمل.
وبعد مرور أكثر من عقدين على هذا الجدل وما صاحبه من تحولات ملموسة أكدت نهاية المثقف بالفعل، لم يخرج علينا أحدهم ليدلي برأيه في المناخ الفكري والثقافي السائد الآن، الذي ينتجه البشر، أولئك الذين بشّر بهم أصحاب العناوين البراقة السابق الإشارة إليها، لقد كان دعاة نهاية النخبة يحلمون بمنتج ثقافي ومعرفي يشارك فيه الجميع، يخرج من وسط الناس الحقيقيين، يعبر عنهم مباشرة، وكانوا يتهمون معارضيهم بأنهم يسكنون في البرج العالي أو يتعالون على البشر ويحتقرون البسطاء.
اليوم بإمكان أي متابع لتأثير تلك التحولات أن يرصد وضع فكري وثقافي بائس على المستويات كافة، بداية من غياب واضح لأي أطروحة جديدة تثير النقاش، ونهاية بمواقع إخبارية لا نجد فيها ما يستحق القراءة، مروراً بمنتج ثقافي وفني متراجع ولا يقارن بأي حقبة سابقة، بالرغم من تحوله في بعض الأحيان إلى صناعة تتوافر لها إمكانيات ضخمة، أما مواقع التواصل فحولت الجميع إلى كتّاب ومبدعين وفلاسفة يقولون رأيهم في أصعب القضايا من دون أي خلفية معلوماتية أو معرفية، هذا فضلاً عن الإسفاف والاحتفاء بكل ما هو تافه.
لا يمكن إيقاف عجلة التقدم التكنولوجي، بمعنى أن الأوضاع على المستوى الفكري والثقافي ستزداد بؤساً، والأهم من ذلك أن هذا الوضع، في العالم العربي بصفة خاصة، ولأسباب عديدة، سيؤدي قريباً إلى تآكل البقية الباقية من النخب القديمة، لنجد أنفسنا بعد سنوات ليست بعيدة أمام أفكار ومنتجات ثقافية مغايرة لكل ما نعرفه الآن.
لا يمكن لعاقل أن يضع التكنولوجيا مقابل الفكر في محنة الاختيار، أو يعدد إيجابيات أحدهما على حساب الآخر، ولكن لا بد من وقفة نتأمل فيها حالتنا الفكرية والثقافية، ونبحث عن الطرائق المناسبة والعصرية التي يمكن من خلالها أن تستعيد تلك الحالة عافيتها وقدرتها على الإبداع.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"