هل كان إلياس أبو شبكة شيوعياً؟

مرايا الزمن
00:24 صباحا
قراءة 4 دقائق

الحفل التكريمي الذي أقامته لجنة تخليد الشاعر اللبناني إلياس أبي شبكة بمناسبة مرور ستين عاماً على رحيله، اضافة إلى ترميم منزله في ذوق مكابل وتحويله إلى متحف، ليس سوى نزر يسير مما يستحقه صاحب غلواء وأفاعي الفردوس من اهتمام وتكريم. ففي اعتقادي الشخصي ان الياس أبا شبكة هو واحد من أبرز الأسماء التي أسهمت في إعادة الاعتبار للشعرية العربية بعد قرون عديدة من الخمول والوهن والتنميق الزخرفي الشكلي. وهو، إلى جانب جبران خليل جبران وخليل مطران وقلة آخرين، أحد الذين أضرموا النار تحت رماد الشعر الخامد ومهدوا الطريق أمام حركة الحداثة الشعرية التي قادها في ما بعد كل من بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي. وانه لأمر بالغ الدلالة أن يكون عام 1947 الذي رحل فيه أبو شبكة عن هذا العالم هو العام نفسه الذي ظهرت فيه قصيدة الكوليرا للملائكة وقصيدة هل كان حبا؟ للسياب. فإذا كانت نظرية التقمص تجوز على الشعر فإن روح الحداثة التي خرجت من جسد أبي شبكة الشعري قد وجدت ملاذها الآمن في تربة العراق الخصبة التي طالما أمدت الشعر العربي بأسباب التطور والتجديد.

إن أهم ما ميز الياس أبا شبكة عن أقرانه ومجايليه هو كونه لم يربط الشعر بالتنميط الأسلوبي التقليدي أو بالقواعد النظرية الصارمة بل ربطه بالحياة نفسها وهي تبحث عن تشكلها في اللغة والصورة والمعنى، أي ان شعره لم يصدر عن المفاهيم المكررة والسائدة التي أخذ بها الكلاسيكيون، والتي تدعو في الأعم الغالب إلى الفصل بين الشاعر وموضوعه، بل كان يصدر عن العصب والشغاف ودورة الدم. فالشعر عنده ذو مصدر قلبي لا صلة له بالمنطق المحكم والأفكار الجاهزة. وهو ما يتمثل بأبياته الشهيرة: اجرح القلب واسق شعرك منه/ فدم القلب خمرة الأقلام/ وإذا أنت لم تعذب وتغمس/ قلماً في قرارة الآلام/ فقوافيك زخرف وبريق/ كعظام في مدفن من رخام. ولعل مدفن الرخام هذا ليس تأويل الشاعر الخاص والبالغ القسوة للمدرسة الرمزية التي أخذ بها فرنسيون كبار من وزن فاليري ومالارميه، كما أخذ بها بعض شعراء لبنان وعلى رأسهم سعيد عقل.

على أن تجربة أبي شبكة الشعرية تبدو عابرة للمدارس والنظريات وتختزل على قصرها النسبي معظم الأساليب والمقاربات والطرائق التعبيرية، ففي حين تبدو قصائده المبكرة في القيثارة أقرب إلى المقطعات الوصفية الهادئة والترجيع الغنائي الرومانسي اللذين يتسم بهما شعر المهجر اللبناني في تلك الفترة تذهب مجموعته الثانية غلواء إلى أمكنة أخرى تتراوح بين النفسي والديني من جهة وبين المقدس والمدنس من جهة أخرى، فالصدمة التي عاشتها حبيبته غلواء إثر رؤيتها لمشهد صادم في مدينة صور اللبنانية أحدثت شروخاً عميقة في داخل الشاعر وجعلته يعيش فصاماً بالغ القسوة بين البراءة التي يتوق إليها وبين الخطيئة والإثم اللذين يتهددان العالم في عصوره الأخيرة. إلا أن الآلام التي عاشها أبو شبكة في تلك الفترة كانت الممر الاجباري الوحيد للخلاص الذي انكشف له بعد ذلك. على أن ذروة تجربة أبي شبكة الابداعية تمثلت في رأيي بمجموعته التالية أفاعي الفردوس، والتي جاءت هي الأخرى ثمرة لعلاقة محرمة أقامها الشاعر مع احدى النساء المتزوجات. فهنا تصل لغته إلى ذروة تأججها واحتدامها البركانيين. وهنا يتبدى توق أبي شبكة للذهاب إلى الأقاصي العصبية والنفسية والايقاعية للكتابة حيث لا يعود الوزن الشعري الكلاسيكي عائقاً أمام التجربة بل هو ينفلت من عقاله ليخوض معها مغامرة التوحش والمغامرة والانفلات من القيود. وفي هذه المجموعة بالذات تتغذى تجربة أبوشبكة من مصدرين متباينين هما: المصدر البودليري الجحيمي في أزهار الشر والمصدر التوراتي المتصل بصراع الإنسان مع شياطينه ووساوسه.

غير أن هذه الوجوه المتعددة لأبي شبكة تظل ناقصة إذا لم نضف إليها ذلك الوجه الآخر المتعاطف مع فقراء العالم وعماله البائسين والذي انعكس في بعض قصائد الشاعر كما في بعض مواقفه السياسية في النصف الأول من القرن العشرين. ولعل القليلين يعرفون أن أبا شبكة كان واحداً من خطباء الاحتفال الحاشد الذي أقامه الحزب الشيوعي اللبناني في الأول من مايو/ أيار عام ،1925 وبعد عام واحد فقط على تأسيسه. وإذا كان الناقد محمد دكروب لا يذهب في كتابه المعروف جذور السنديانة الحمراء إلى اعتبار صاحب نداء القلب عضواً منتسباً للحزب الشيوعي فإنه يرى في شعره تعبيراً صادقاً وتلقائياً عن المبادئ نفسها التي عمل الشيوعيون على تحقيقها في نضالاتهم وأدبياتهم المختلفة. على أن الطريف في الأمر أن الشاعر الذي وقف في الثانية والعشرين من عمره ليمتدح عمال العالم وكادحيه ومناضليه عاد في الحادية والأربعين ليقف الوقفة ذاتها في مناسبة مماثلة وليهتف بنبرة حماسية لافتة: هم الصعاليك أقصى المستحيل لهم/ فلو أقام بأحلاق الردى مرقوا/ لينين، أحلامك الغراء قد صدقت/ فانفض ترابك، يكفي ذلك الغرق. ولعل في قصيدة الشاعر تلك من المباشرة ووضوح الموقف ما يسمح لنا بالتساؤل عما إذا كان الياس أبو شبكة عضواً سرياً في الحزب الشيوعي اللبناني أم ان مزاجه المتقلب وشغفه العارم بالحرية قد دفعاه لأن يظل بعيداً عن القيود الصارمة للعمل الحزبي؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"