عادي

"الخليج".. قصـة صحيفـة وطـــــن وأمـــــة

01:59 صباحا
قراءة 6 دقائق
عبد الله

بقلم: عبدالله خليفة الغفلي

تعَدُّ دارُ الخليج للصحافة والطباعة والنشر صرحاً ومنبراً إعلامياً وثقافياً رائداً في دولة الإمارات، لها مكانة متقدمة وبصمة متميزة في تاريخ المسيرة الإعلامية والثقافية، منذ المرحلة التمهيدية لقيام الاتحاد، مروراً بالاتحاد وتأسيس الدولة على يد المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيَّب الله ثراه، وصولاً إلى مرحلة التمكين بقيادة صاحب السموّ الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله.

قبل 50 عاماً في 19 أكتوبر/تشرين الأول 1970، كانت النواة الطيبة لتأسيس هذه الدار على يدي الشقيقين تريم وعبدالله عمران، رحمهما الله، بإصدار صحيفة الخليج، بجهد شخصي، وإمكانات محدودة، في ظل تحديات كبيرة، ومخاطر جسيمة، وممانعة ثابتة من المستعمر البريطاني للتطور الفكري والثقافي والعلمي لأبناء الإمارات، وفرض العزلة عليهم عن محيطهم العربي. وقد أشرق شعاع «الخليج» في مرحلة زمنية حساسة، شهدت تغيرات وتحولات كبيرة على الخريطة السياسية لمنطقة الخليج العربي، كان أبرزها الجهود التي يبذلها حكام الإمارات المتصالحة؛ لتأسيس وقيام أول دولة متحدة في الوطن العربي.

بعد هزيمة 1967، استشعر أبناء الإمارات ومثقفوها، ضرورة المطالبة بالاستقلال والوحدة العربية، والنهضة والتطور وتوفير التعليم لأبناء المنطقة، ونشر الوعي الوطني والقومي، وإيصال آرائهم ومطالبهم للعالم، وكانت الصحف العربية آنذاك، لا تنشر أخباراً أو تقارير عن إمارات المنطقة، إلا إذا كان إعلاناً مدفوع الأجر، وهذا دفع الشقيقين تريم وعبدالله عمران، بعد عودتهما من الدراسة في القاهرة عام 1968، إلى التفكير في إصدار صحيفة وطنية بمستوى الصحف العربية. وقد بدأ طرح فكرة إصدار «الخليج» منذ ذلك التاريخ، إلى أن تحولت الفكرة واقعاً بعد سنتين، بصدور مرسوم من الشيخ خالد بن محمد القاسمي، حاكم الشارقة، رحمه الله، عام 1970، بمنحهما امتيازاً بإصدار مجلة وجريدة يومية.

يقول الدكتور عبدالله عمران: «كان إصدار «الخليج» تجسيداً لرسالة إعلامية ومبادئ آمن بها المؤسسون، وتبلورت بقيام مشروع وحدوي في الخليج بعمق عربي وانتماء قومي، وترسيخ الهوية الحضارية العربية والإسلامية، وتأكيد الذاتية الثقافية العربية المستمر، فضلاً عن طرح أفكار للنهوض والتنوير والمعرفة والحريات العامة، والغاية أن تكون «الخليج» ضمير الوطن والأمة، وصوت الإنسان العربي في كل مكان».

ولأنها ولدت كبيرة وتحمل رؤية ورسالة وطنية عظيمة لأبناء الإمارات، كانت صحيفة الخليج بما تطرحه عبر صفحاتها، وبرسالتها وشعارها (للحقيقة دون خوف، وللواقع دون زيف)، تهز أركان دول وتؤرق مضاجعها، بتصديها لهيمنة المستعمر البريطاني، ونيات شاه إيران العدوانية لاحتلال الجزر الإماراتية، فكشفت عن مخططاتهم، وانتقدت سياساتهم، وطالبت بالتصدي لهم، ومنعهم من تحقيق طموحاتهم الخبيثة، وهو ما أدى إلى تعرض الكثير من إصداراتها في السنة الأولى لمواقف سلبية، وممانعة دائمة من أعداء الأمة العربية؛ حيث تدخل السفيران الإيراني والبريطاني في الكويت في كثير من المرات؛ لمنع طباعة الصحيفة، ومصادرة الأعداد المطبوعة، قبل شحنها من المطار إلى الإمارات، كما تعرض المؤسسان لضغوط عنيفة من شاه إيران والمستعمر البريطاني؛ لإيقاف اللاءات الثلاث التي أزعجتهم (لا تفريط في الجزر.. لا استثمار، لا مشاركة، لا تنازل) من عناوين الصحيفة اليومية، وتطور الأمر إلى تدخل المعتمد البريطاني في الإمارات المتصالحة ومخاطبة حاكم الشارقة؛ لمحاولة إغلاق الصحيفة.

ربّما كانت هذه البداية الشاقة، المقترنة بالعزيمة والوعي بالمسؤولية الوطنية، من العوامل الرئيسية التي ساهمت في تحقيق النجاح على أسس صلبة، ومواصلة التفوق والريادة الإعلامية لصحيفة الخليج طوال عقود مستقبلية في مجال الصحافة المقروءة.

عندما نتحدث عن تاريخ صحيفة «الخليج» لابد أن نبدأ من دورها الوطني، ومساهمتها بدعم مسيرة الاتحاد وقيادته التي تؤسس دولة حديثة؛ حيث كان لصدى مقالاتها اليومية، ومادتها الإخبارية، وتحقيقاتها الصحفية، ومتابعاتها الميدانية، الانعكاس المؤثر بإيجابية في الكثير من القوانين والقرارات الاتحادية والمحلية، التي طورت أداء الوزارات والهيئات الحكومية، والدوائر والمؤسسات المحلية، فقد كانت تنقل الواقع، وتطرح احتياجات المواطنين وتطلعاتهم أمام القيادة، والاستجابة دائماً بمستوى يفوق المطالب، والإنجاز أفضل من المتوقع، هذا نهج المغفور له بإذن الله الشيخ زايد، طيب الله ثراه، ورؤيته، فقد حقق المستحيل وغيّر الواقع للأفضل، وفتح أبواب المستقبل المشرق لأبناء هذا الوطن، بعد عقود من الضيق والفقر ونقص التعليم. فكانت «الخليج» صحيفة الوطن والقيادة، تنطق بنهج زايد، وتنقل توجيهاته، وتسهم في بيان رؤيته الحكيمة وتطلعاته الكبيرة لشعب الإمارات أمام الرأي العام المحلي والخارجي، وكانت كذلك صحيفة المواطن الإماراتي بجميع فئاته.

يقول الدكتور عبدالله عمران، رحمه الله، في الذكرى الرابعة والثلاثين لإصدار الخليج «تستيقظ (الخليج) صباحاً، مستبشرة بهذه الثمار اليانعة التي غرسها زايد الخير، وتستشعر مسؤولياتها تجاه سقايتها ورعايتها وتطويرها، في أزمنة قادمة، تستدعي اليقظة والسهر، وإعلاء حسن المواطنة، والقرار الرشيد، وامتلاك جواهر العصر والمعرفة والتجدد الحضاري».

رحلة صحيفة الخليج.. لا شك أنها كانت وما زالت حتى اليوم رحلة جميلة وممتعة للجيل الذي انطلق معها يعمل ويجتهد في سبيل بناء نهضة الإمارات ورفعة اسمها خفاقاً عالياً بين الأمم المتقدمة والمتحضرة، رحلة من بدايتها ما تزال تسكن ذاكرة الكثير من أبناء جيل السبعينات والثمانينات، وهم في ذلك الزمن في مراحل الدراسة، يرمقون بائع الصحف واقفاً صباح كل يوم عند بوابة المدرسة؛ حيث كان شراء صحيفة «الخليج» التي كانت تباع بدرهم واحد من الثوابت اليومية للطلاب قبل الدخول للمدرسة، كيف لا.. وصحيفة الخليج، مدرسة ثانية للطلاب، فما لا يجدونه في صفحات الكتب الدراسية ذات المعلومات الثابتة، كانوا يستطيعون الوصول إليه عبر صفحات «الخليج» بمعلوماتها المتجددة والمختارة والمتنوعة.

وكان من محاسن المصادفات أن الدكتور عبدالله عمران، رحمه الله، في تلك الفترة الزمنية شغل منصب وزير التربية والتعليم، والرئيس الأعلى لجامعة الإمارات، فكان له دور مهم في تنفيذ توجيهات المغفور له بإذن الله الشيخ زايد، طيب الله ثراه، في التربية والتعليم، والإشراف على نجاحهما بالمنظومة التعليمية أولاً، والمؤسسة الصحفية ثانياً، فتخرج في المدارس والجامعات الإماراتية جيل من الطلاب والطالبات متسلحين بكل مجالات العلم وشتى فروع المعرفة، كان منهم وما يزال الوزراء والمديرون والقادة والسفراء والأطباء والمهندسون والإعلاميون، وغيرهم ممن شغلوا وظائف ومناصب في مختلف المستويات.

أما مهنياً، فلم تمض بضع سنوات على إصدار «الخليج» حتى زاحمت بشهرتها ومكانتها الصحف الكبرى، واستحوذت على ثقة القرّاء، وصارت رقماً صعباً في تاريخ الصحافة العربية في الربع الأخير من القرن المنصرم، وكان وما يزال لها الريادة والسبق في تطوير المادة الإخبارية عنواناً ومتناً.

كما كانت «الخليج» صرحاً علمياً ومدرسة متفردة في اكتساب المعرفة والخبرة في احتراف الإعلام والعمل الصحفي، العمل فيها غاية وحلم، والاستفادة من خبرة القامات الإعلامية الموجودة بمكاتبها مكسب عظيم؛ حيث فتح مؤسسوها الباب على مصراعيه؛ للنهوض بمواهب أبناء الإمارات؛ وتدريبهم على العمل في الصحافة والإعلام، واصطياد إرهاصات الإبداع الفكري والأدبي هنا وهناك، ورفدها بالحوافز والتشجيع؛ للمضي قدماً في مواكبة كبرى الصحف الإخبارية في العالم العربي، وكانت شهادة العمل فيها بصمة امتياز لكل من يحملها.

وهذا الجانب يذهب بنا إلى جانب آخر اضطلعت به الدار، وهو المتعلق بطباعة وتوزيع الكتب والدراسات والمجلدات الثقافية والعلمية والفكرية والسياسية والاقتصادية، وتنبع أهمية هذا الجانب، في تلك المرحلة من معرفة مدى صعوبة الطباعة والتوزيع في الإمارات، وما كان يعترض الكتّاب والمؤلفين من معوقات؛ بسبب ضعف الإمكانات المتوافرة، مقارنة بالزمن الحاضر. واكتمل هذا الدور الإيجابي بصورة بارزة بالمشاركة الدائمة في معرض الشارقة الدولي للكتاب، الذي تعد الدار مساهمة رئيسية في إنجاحه على مدى عقود، بتوجيهات صاحب السموّ الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة.

قبل 50 عاماً كانت مجرد صحيفة ناشئة لا يعرف مستقبلها ومدى قدرتها على تطويع الصعاب ومواكبة الأحداث، وأما الآن ومع الاحتفال باليوبيل الذهبي لصدورها، فإن مكانة الخليج كبيرة لدى أبناء الإمارات تزداد بريقاً ولمعاناً وقيمةً في قلوبهم وعيونهم يوماً بعد يوم، فقد كانت وما تزال من أهم الصروح الإعلامية الإماراتية التي يفتخر بها، يتنافس محبوها في امتلاك أعدادها الأولى، ويحتفظون بقصاصاتها المهمة في ألبومات خاصة، هي عندهم أغلى وأثمن من كل ثمين.

إنها قصة صحيفة الخليج.. صحيفة الوطن الإمارات.. قصة المجد والفخر بجهود وصمود مؤسسيها.. قصة يجب أن تكتب وتدون بجميع فصولها كرواية وطنية.. لأبناء المستقبل والجيل القادم؛ لأنها إحدى قصص مرحلة تأسيس الاتحاد وبناء الدولة، على يد زايد الخير، على مدى 50 عاماً حملت متن صفحاتها الخالدة توثيقاً لسيرته العطرة مع إخوانه حكام الإمارات، وإنجازاتهم التاريخية بتوحيد وتأسيس هذا الوطن الغالي، والارتقاء به وطناً ومواطناً في جميع المجالات الحضارية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"