“اعدلوا هو أقرب للتقوى”

01:14 صباحا
قراءة 6 دقائق

على العدل قامت السماوات والأرض، وبالقسط أمر الله وعلى المساواة قام ميزان الحق والباطل إِن اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْبَغْيِ، (النحل: 90).

(العدل أساس الملك) حكمة قديمة يثبت التاريخ والواقع مصداقيتها إلى حد بعيد فإذا ساد العدل في مجتمع من المجتمعات فإن الإنسان يعيش آمناً على نفسه وعلى أهله وماله وبالتالي يشعر بانتمائه الحقيقي للمجتمع الذي يعيش فيه وفي ظل هذا الانتماء القوي من الفرد تنمو الحاجة الملحة للدفاع عن كيان هذا المجتمع في كل عضو من أعضائه ولذلك نجد هذا المجتمع متيناً متماسكاً عصياً على الأعداء لا يستطيعون النيل منه لأن كل فرد في المجتمع يعلم أنه إن لم يهب للدفاع عن هذا المجتمع فإنه في ظل الأعداء سيسام الهوان والذل فيرفض ذلك بطبيعته وهكذا تستمد هذه المجتمعات متانتها في مواجهة العدوان الخارجي.

ومن الآيات التي تحث على العدل بل توجبه بين الناس لا فرق في ذلك بين مؤمن وكافر أو مسلم وغيره. قوله تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، (النساء: 58. ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو اقرب التقوى، (المائدة: 8). وأمرت لأعدل بينكم، (الشورى: 15). فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين، (الحجرات: 9).

من أسماء الله

والعدل اسم من أسماء الله، وخاصية لازمة من خصائص الإسلام، التي لا يجوز للدولة أو الأفراد إهمالها أو مخالفتها، وفريضة واجبة في أعناق أفراد الأمة جميعا، راعيها ورعيتها على السواء، وهو ميزان الله تعالى في الأرض، يؤخذ به للضعيف من القوي، ولصاحب الحق من المبطل المعتدي، وهو في معناه العام يتضمن الإنصاف والمساواة وعدم الجور في الأحكام أو التصرفات، سواء من الحاكم أو من المحكوم.

وجاء معنى العدل في القرآن الكريم بصيغ وألفاظ متنوعة فقد جاء بلفظه: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ، (282: البقرة) إِن اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، (90: النحل). وجاء بصيغة المضارع والأمر: وَلا يَجْرِمَنكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتقْوَى، (المائدة: 8) وجاء بلفظ القسط: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، (الأنبياء: 47) وجاء بلفظ الميزان: اللهُ الذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَق وَالْمِيزَانَ،(الشورى: 17).

و في قوله تعالى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتقْوَى ما يدل على أن الله تعالى يحقق لأهل العدل ما وعدهم به من المخرج إذا حققوه وقد ذكر العلماء أن العدل هو التقوى نفسها، قال الجصاص رحمه الله في تفسير الآية: فإن قيل: لم قال: هو أقرب للتقوى ومعلوم أن العدل نفسه هو التقوى، فكيف يكون الشيء هو أقرب إلى نفسه؟ قيل: معناه: هو أقرب إلى أن تكونوا متقين باجتناب جميع السيئات، فيكون العدل فيما ذكر داعيا إلى العدل في جميع الأشياء واجتناب جميع المعاصي؛ ويحتمل: هو أقرب لاتقاء النار.

فالعدل يشمل القيام بكل ما فرضه الله تعالى، سواء كان من حقوقه أو حقوق عباده، كما قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: إِن اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، (النحل: 90).

قال ابن عطية: العدل هو كل مفروض، من عقائد وشرائع في أداء الأمانات، وترك الظلم والإنصاف، وإعطاء الحق، فالعدل من أهم ما يجعل الله لأهله مخرجا من الضنك والحرج، وهو ضد الظلم الذي يؤهل أهله لغضب الله وانتقامه في الدنيا والآخرة ويكون سببا في غلق المخارج من الفتن والمصائب، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِن أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ، (هود: 102).

تطبيق عملي

هذه المفاهيم التي أرساها الإسلام لم تكن مجرد نظريات فحسب، بل كانت إلى جانب ذلك سلوكًا عمليًا، وخلقًا اجتماعيًا، ونظامًا سياسيًا، ودولة قامت في قاعدتها الأولى على العدل والإحسان، حتى أصبح العدل ميزة من ميزات هذه الأمة، وعلامة بارزة في نظامها السياسي والاجتماعي، ليس تجاه المسلمين فحسب، بل ومع الناس جميعًا بغض النظر عن أديانهم وأعراقهم، تطبيقًا للنص القرآني الخالد: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا)، وشهد بذلك الأعداء قبل الأصدقاء، والفضل ما شهدت به الأعداء، رغم ما يتشدق به بعض الظلمة الذين يمارسون الجور في العالم، حين يصفون الإسلام بالفاشية والإرهاب، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا!

روى أبو عبيد في كتاب الأموال عن عمير بن سلمة الدؤلي قال: بينما عمر بن الخطاب قائل في ظل شجرة، وإذا أعرابية جاءته فقالت: إني امرأة مسكينة ولي بنون، وإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان بعث محمد بن مسلمة ساعيا فلم يُعطنا، فلعلك أن تشفع لنا إليه، قال: فصاح بغلامه أن ادع لي محمد بن مسلمة. فقالت: إنه أنجح لحاجتي أن تقوم معي إليه، فقال: إنه سيفعل إن شاء الله، فجاءه فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين. فاستحيت المرأة فقال عمر: والله ما آلو أن أختار خياركم، كيف أنت قائل إذا سألك الله عز وجل عن هذه؟ فدمعت عينا محمد، ثم قال عمر: إن الله بعث إلينا نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فصدقناه واتبعناه، فعمل بما أمره الله به، فجعل الصدقة لأهلها من المساكين حتى قبضه الله على ذلك، ثم استخلف الله أبا بكر فعمل بسنته حتى قبضه الله تعالى، ثم استخلفني فلم آل أن أختار خياركم، إن بعثتك فأد إليها صدقة العامِ وعام أول وما أدري لعلي لا أبعثك، ثم دعا لها بجمل فأعطاها دقيقا وزيتا، وقال: خذي هذا حتى تلحقينا بخيبر فإنا نريدها. فأتته بخيبر فدعا لها بجملين آخرين قال: خذي هذا فإن فيه بلاغا حتى يأتيكم محمد بن مسلمة فقد أمرته أن يعطيك حقك للعام وعام أول.

إقامة الحدود

أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حِب رسول الله، أراد أن يشفع عند النبي في امرأةٍ سرقت، فغضب النبي أشد الغضب، وكما ورد في الأثر: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ، هذا هو الإسلام.

ويروى أن سيدنا عمر جاءه ملِك من ملوك الغساسنة مسلماً، فرحب به أشد الترحيب كان الموسم موسمَ حج، وفي أثناء طواف الملك حول الكعبة داس بدوي من فزارة طرف ردائه، فلم يحتمل الملك هذا، فالتفت نحوه وضربه ضربة هشمتْ أنفه.

هذا البدوي ليس له إلا عمر، ذهب إليه ليشكو هذا الملك الغساني جبلةَ بن الأيهم، فاستدعى عمر جبلة، وقال: أصحيحٌ ما ادعى هذا الفزاري الجريح؟ قال: لست ممن ينكر شيئاً، أنا أدبت الفتى، أدركت حقي بيدي، قال عمر أَرضِ الفتى، لا بد من إرضائه، فمازال ظفرك عالقاً بدمائه، قال له: وإن لم أفعل؟ قال له يُهشمن الآن أنفك، وتنال ما فعلت كفك.

قال له كيف ذاك يا أمير المؤمنين؟ ما هذا الكلام هو سوقة، وأنا عرش وتاج، كيف ترضى أن يخر النجم أرضاً؟ قال له: نزوات الجاهلية، ورياح العنجهية قد دفناها، وأقمنا فوقها صرحاً جديداً، وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيدا..

حديث الروح للأرواح يسري

وتدركه القلوب بلا عناء

هذا ما كان من أمر الأمة حين ولي أمورها خيارها، فحكموا بين الناس بالعدل، وأدوا الأمانات إلى أهلها، انقيادًا لأمر الله تعالى إذ قال: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، فكيف أصبحت الأمة اليوم في ظل الظلم والجور الذي يسود كل ركن من أركان حياتها؟ أعتقد أن الجواب يعرفه الصغير فينا قبل الكبير!!

فالعدل الذي هو أقرب للتقوى يؤهل أهله للمخرج الذي وعد الله به من اتقاه، والظلم يسد بابه.

شهادة الأعداء

وبالعدل قامت السماوات والأرض، كما أنطق الله تعالى بذلك اليهود عندما أرادوا أن يرشوا عبد الله بن رواحة، ليخفف عنهم خرص مزارعهم، مع أنهم أشد الناس ظلما لغيرهم، فقال لهم: تُطَمعونني بالسحت؟ والله لقد جئتكم من أحب الناس إلي، ولأنتم أبغض إلي من عِدتِكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم على ألا أعدل عليكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.

قال ابن تيمية رحمه الله: وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم: أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة.

ويقال: (الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام) والذي يقرأ نصوص القرآن والسنة في العدل يجده شاملا لكل من يتعامل معه المسلم، من الأسرة بكل فئاتها والمجتمع بجميع أصنافه، وولاة الأمر، فكل مستوياتهم، كل من هؤلاء يجب أن يعدل مع الآخر.

وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته). قال: ثم قرأ: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد). (البخاري ومسلم).

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"