السياسة الفرنسية بين اليمين واليسار

04:51 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي
تعيش الدولة الفرنسية في المرحلة الراهنة أصعب فتراتها التاريخية المعاصرة، حيث يكاد يجمع المراقبون على أن الهوية السياسية والأيديولوجية للسلطة والمعارضة على حد سواء، فقدت كل عناصر الانتماء الثقافي التي تبلورت وترسخت اعتماداً على قيم فكر الأنوار ومبادئ الثورة الفرنسية، ومن الصعب بالتالي أن نقدم الآن توصيفاً دقيقاً لطبيعة الانتماء السياسي للأطراف الفاعلة في المشهد السياسي الفرنسي. فقد اضمحلت الخطوط الفاصلة بين ما كان يعرف باليسار واليمين، حيث تحول اليسار إلى ما يشبه اليمين بل بات أكثر يمينية من اليسار الأمريكي نفسه، الذي كان التقليد السياسي الأوروبي يرى فيه امتداداً لقوى اليمين في بلد العام سام. وأصبح وسط اليمين المعروف بالتيار الديغولي أكثر تطرفاً في مجمل مواقفه السياسية، من تيار أقصى اليمين، بل إن هذا اليمين المتطرف برئاسة عائلة لوبان بات أكثر تمسكاً بالثوابت الوطنية للدولة الفرنسية، وأكثر جرأة وجسارة في مواجهته للنفوذ الصهيوني في أوروبا.
وانطلاقاً من هذه المقاربة النقدية للسياسة الفرنسية، يقدم الفيلسوف اليساري رجيس دوبريه توصيفاً حزيناً لما آل إليه واقع اليسار في فرنسا، بعد أن فرط هذا التيار، منذ عقود من الزمن، في مرجعياته الفكرية والتاريخية، حيث يشير دوبريه بكثير من الحسرة والمرارة، إلى أن عصرنا يتميز بوجود نوع من المطالبة الملحة الداعية إلى ضرورة عودة الدولة إلى ممارسة دورها الضابط والمنظم للمجتمع، بهدف التعامل بكل فعالية مع التناقضات الحادة التي تفرزها التطورات المعاصرة. ويرى دوبريه في سياق متصل أن اليسار يبدو الآن فاقداً لمرجعياته ولمحدداته، وبالتالي فهو لا يجرؤ على أن يكون هو نفسه، ونجد هذا اليسار المشوه يتحدث عن الحرية والمساواة، لكنه ينسى الحديث عن الدولة المدنية والعلمانية ويسقط من قاموسه مفهوم الاستقلال الوطني؛ لقد التحق اليسار الفرنسي بالقيم الإمبراطورية وأصبح محباً للإمبريالية. ما يؤلم أكثر، وفق ما يذهب إليه دوبريه، بالنسبة للوضع الراهن لليسار الفرنسي، هو غياب الرؤية التاريخية لدى مجمل نخبه، التي لم تعد قادرة على التذكر، وباتت بالتالي أقل قدرة على استباق الأحداث بناءً على نماذج التجارب التاريخية السابقة.
لقد أضاع اليسار الفرنسي بوصلته ولم يعد قادراً بالنسبة لأغلب أتباعه، على تقديم بدائل جدية قادرة على مواجهة حالة الإفلاس والانهيار الكامل التي يشهده معسكره، ومن غير المؤكد أن الرئيس الحالي فرانسوا هولاند سينجح في المرحلة المقبلة، في تقديم مشروع سياسي واقتصادي قادر على مجابهة الاستحقاقات والتحديات المقبلة، وذلك ما يدفع قيادات كبيرة داخل اليسار إلى المطالبة بإجراء تغيير جذري في الخريطة السياسية لهذا التيار، من أجل التصدي لليمين الذي يبدو انتصاره في الانتخابات الرئاسية المقبلة شبه مؤكد في حال إصرار هولاند على تمثيل اليسار في هذا الاستحقاق الانتخابي الذي ستكون له تداعيات كبيرة على استقرار المجتمع، نتيجة للانتشار غير المسبوق للعنصرية وللمشاعر المتطرفة والرافضة لوجود الأجانب - خاصة المسلمين منهم - في فرنسا.
ويمكن القول في سياق هذه المقاربة نفسها، إن وضعية اليمين الوسط ليست أفضل حالاً، فقد شوه نيكولا ساركوزي القيم الوطنية التي تأسس عليها التيار الديغولي، من خلال إصراره رفقة صديقه «برنار هنري لفي» على الارتماء بشكل شبه كلي في أحضان الصهيونية العالمية. ولعل الكثير منا مازال يتذكر، أن فرنسا أصبحت أثناء حكمه أكثر أمريكية من الأمريكيين أنفسهم، وحتى أكثر من البريطانيين الذين كانت تجمعهم تحالفات استراتيجية وتاريخية مع الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي. ويشير المراقبون لشؤون السياسة الفرنسية إلى أن منافسي ساركوزي داخل اليمين الوسط لا يملكون القدرة الكافية من أجل هزيمته، سواء تعلق الأمر بفرانسوا فيون أو بآلان جوبي، بالنظر إلى الشعبية الكبيرة التي مازال يحظى بها ساركوزي في أوساط اليمين، نتيجة لتبنيه لخطاب راديكالي معادٍ للمسلمين وللأجانب بشكل عام، ولا ريب في أن إعادة انتخابه لفترة رئاسية جديدة ستفضي إلى محو وتدمير ما تبقى من الميراث الديغولي لتيار اليمين الوسط.
وصفوة القول في زعمنا، أن السياسة الفرنسية عرفت خلال السنوات الماضية سلسلة كبيرة من المسخ والتشويه، ولم تعد مبنية على التقسيمات التقليدية التي أنتجها الفكر السياسي الفرنسي الكلاسيكي، حيث بات اليسار يمثل مجرد مقولة بلاغية فارغة، ولم يعد هناك حضور واقعي لقوى الوسط وليمين الوسط. وأضحت الطبقة السياسية الفرنسية منقسمة ما بين المتطرفين من جهة، والأقل تطرفاً من جهة أخرى؛ وذلك بناءً على ملفات السياسة الداخلية والخارجية للدولة الفرنسية، وليس اعتماداً على الموروث السياسي والفكري لمختلف التيارات، فبالنسبة مثلاً للمواضيع المتعلقة بالإسلام والمهاجرين، تحول المشهد الفرنسي برمته إلى لون شديد القتامة والسواد. أما في ما يتعلق بالسياسة الخارجية، فإن كلا التيارين الرئيسيين المتمثلين في اليسار واليمين الوسط، مازالا يجتهدان في التنافس من أجل إرضاء «إسرائيل» واللوبي اليهودي الأمريكي المهيمن في شرق أوروبا وغربها، بينما يبدو اليمين «المتطرف» بقيادة مارين لوبان، أكثر تمسكاً باستقلالية وسيادة فرنسا وأقل تبعية لدول الاتحاد الأوروبي بقيادة ألمانيا، ومن ثمّ فهو متهم بالعمالة للرئيس الروسي بوتين، لمجرد حرصه على الدفاع عن مبادئ السيادة الوطنية التي طالما نادت بها الدول القومية الحديثة في أوروبا.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"