مكانة الزكاة في الاقتصاد الإسلامي

12:34 مساء
قراءة 7 دقائق

الزكاة ركن أساسي من أركان الاقتصاد الإسلامي، لكنها ليست إلا أحد الأركان أو إحدى الوسائل التي يمكن أن تستخدم في تحقيق أهداف الاقتصاد الإسلامي، حيث إن هذا الاقتصاد الإسلامي أوسع بكثير جداً من قضية الزكاة، فالإسلام له موقفه الواضح المحدد من الإنتاج والاستهلاك والاستثمار والتوزيع وشتى القضايا الاقتصادية، بل إن كثيراً من الأفكار الاقتصادية التي وصل إليها الاقتصاد الوضعي سبق إليها المسلمون منذ فترة طويلة، كما أن الاقتصاد الإسلامي له أسسه وخصائصه التي تميزه عن غيره، فهو في موضوع الحرية الاقتصادية يتبنّى الحرية المنضبطة بالشريعة الإسلامية، ويرفض الحرية المطلقة كما يرفض الدكتاتورية الاقتصادية، وفي جانب الملكية يقوم على الملكية المزدوجة التي تجمع بين الخاصة والعامة، ويرفض أن تكون الملكية عامة بصفة أساسية كما في الاشتراكية أو ملكية خاصة كما في الرأسمالية، وفي ميدان الموارد للاقتصاد الإسلامي موقفه المحدد من المشكلة الاقتصادية بصفة عامة والتي تقوم في الفكر الوضعي على ندرة الموارد ولانهائية الحاجات.

إن الاقتصاد الإسلامي يؤمن بوفرة الموارد، ومن ثَم إمكانية تحقيق حد الكفاية لكل إنسان؛ لأن موارد الله تعالى التي خلقت للجميع تكفي الجميع، أيضًا يؤمن بحق الجماعة في موارد الثروة، قال تعالى: هُوَ الذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً، (البقرة: 92).

والسوق في الاقتصاد الإسلامي يحل فيه الإيثار محل الأثرة ويحرم فيه الربا والاحتكار والغش والغرر والنجش وكل صور إفساد السوق وأكل أموال الناس بالباطل.. ولا يُعقل في ظل التطبيق الإسلامي أن تمتلئ الأسواق بالسلع الكمالية بينما يكون هناك نقص في المساكن ووسائل المواصلات والتعليم والصحة، فكل هذه المجالات أولى من السلع الكمالية.

ولو طُبق الاقتصاد الإسلامي في دنيا المسلمين لرأوا أثره في كل جوانب الحياة وليس في جانب الزكاة فقط، فتمويل المشروعات يجب أن يكون على هدي الإسلام، فنبتعد عن التمويل بالربا إلى أنواع التمويل المباحة إسلاميا، وفي الاستثمار يتم ذلك في المجالات المطلوبة للمسلمين على أساس الترتيب الذي وضعته الشريعة الإسلامية لتقديم الضروريات على الحاجيات وتقديم الحاجيات على الكماليات.

دائرة الحلال

وفي هذا الإطار يتضح أن مفهوم الاقتصاد الإسلامي يعتمد على مناهج أصول الفقه والمبادئ الكلية والقواعد الفقهية ومن ثم يستخدم منهج الاستنباط في العلوم الرياضية لوضع الفروض في بناء النظرية الاقتصادية وكذلك يستخدم منهج الاستقراء التاريخي والإحصائي والتحليل الاقتصادي والتنبؤ واستخلاص النتائج والقوانين التي تحكم الظواهر الاقتصادية وبناء النظرية الاقتصادية وتكوينها والتي تمثل أداة من أدوات دراسة الواقع.

إن الإسلام يؤكد تحريم الكسب الربوي وأكل أموال الناس بالباطل وكل ما يؤدي إليه ويشدد على انه يجب التقيد في الإنتاج بوجوب انحصاره في دائرة الحلال والنأي به عن دائرة الحرام ومن ثم يجب أن تكون العملية الإنتاجية كلها في دائرة الحلال من حيث الهدف والمضمون والوسائل أيضا وفي ذلك تطبيق للقيم الاقتصادية في المنهج الإسلامي حيث يحرم كل نشاط اقتصادي ضار بعقيدة المسلم أو أخلاقه ومقوماته وتطبيق ذلك ومراقبته في الاقتصاد الإسلامي سهل ميسور عن طريق التدخل المباشر للمحتسب وجهاز الحسبة والأجهزة الرقابية الأخرى، كما أن الإسلام يدعو إلى مداومة الإنتاج والاستثمار وإتقان العمل واتباع احدث الفنون الإنتاجية ويحرم الاكتناز وينادي بتحقيق التكامل الاقتصادي بين أعضاء الأمة الإسلامية وتحقيق التوازن داخل الدولة الواحدة.

ومن ذلك يتبين لنا أن الاقتصاد الإسلامي يلجُ جميع المجالات.. الاستثمار، الادخار، الإنتاج، والاستهلاك، تحريم الإسراف والتقتير، وإيجاب التوسط والاعتدال، تطبيقًا لقول الله تعالى: وَالذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً، (الفرقان: 67).

أداة انتاجية

وإذا طُبقت الزكاة كما أرادها الإسلام لما اقتصر أثرها على عدد محدود من أفراد المجتمع، وإنما تستطيع إذا طُبقت بالأسلوب الصحيح أن تنقل المجتمع من التخلف للتقدم، وتقود خطى التنمية في كل مجتمع إسلامي، وهي ليست علاقة فردية بين غني وفقير وإنما علاقة بين الدولة والمواطنين، فيجب عليها أن تأخذ الزكاة من الأغنياء للإنفاق على المشروعات التي تنقل الفقراء إلى مستوى الأغنياء، وهي لا تُعطَى معونة مؤقتة وإنما غنى كاملاً.. يقول سيدنا عمر رضي الله عنه للعاملين على الزكاة: إذا أعطيتم فأغنوا، ويقول النووي: يُعطَى الفقير والمسكين ما ينقله من الفقر إلى الغنى دون أن يعود فقيرًا مرة أخرى.

فحتى هذه الجزئية التي يراها البعض تطبيقًا وحيدًا للاقتصاد الإسلامي وهي ليست كذلك، يمكن أن تقود إلى التقدم الاقتصادي، وأن تحقق للمجتمع التنمية الاقتصادية إذا فُهِمَت على حقيقتها كما أرادها الله أداة للإنتاج ووسيلة للتقدم.

المال جوهر الثروة والموارد المالية، وتوزيعها هو محور الاقتصاد، والكسب محور الإنتاج وما يتبعه من توزيع.. والإنفاق يشتمل على الإنفاق الاستهلاكي الذي هو مؤدى العملية الاقتصادية وما يؤدي إليه كل من الكسب والإنفاق من التبادل في نطاق السوق وما يدور فيه من الأسعار والأثمان والقيمة ومن ثم إشباع الحاجات الإنسانية.

وتبرز المشكلة الاقتصادية في وجود غنى غير مرشد وفقر غير معالج، فالرزق والرازق سبحانه كلاهما موجود والقوت مقدر في الأرض لقوله تعالى: (وقدر فيها أقواتها) ولكن العمل والسعي في طلب الرزق مطلوب وواجب وبذلك ينتفي الرأي القائل بالندرة النسبية للموارد والحاجات اللامتناهية للأشخاص إذا راعينا أن الحاجات الإنسانية تجد حدها الأعلى في حظر الإسراف والتبذير والترف، فكلها أمور محرمة محذورة في المنهج الإسلامي لأنها تدخل الفساد على السلوك الإنساني وتؤدي إلى إضاعة الأموال التي هي خير ونعمة وعصب الحياة.

معايير التوزيع

وفي الاقتصاد الإسلامي تتجلى المجابهة الصريحة والمحددة لعوامل ومعايير التوزيع فيه متخذاً من العدالة المعيار الأول ووضع الأدوات والوسائل العملية الكفيلة بتحقيقها.. فهو يضمن حد الكفاية لكل مسلم وحد الكفاية أو حد الغنى نعني به المستوى اللائق للمعيشة مما يختلف باختلاف الزمان والمكان لامجرد حد الكفاف واستيفاء الضرورات الأساسية للحياة واصطلاح حد الكفاية، أو حد الغنى، وإن لم يرد صراحة في أحد نصوص القرآن الكريم أو السنة النبوية إلا أنه يستفاد من روح هذه النصوص وقد ورد صراحة في تعبيرات أئمة الإسلام وكذلك في مختلف كتب الفقه القديمة. ويقول الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن الله فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم والكفاية تختلف باختلاف السعات والأحوال وقد جرى المثل العربي: صيانة النفس في كفايتها.

إن ضمان حد الكفاية لجميع الأفراد في المجتمع هو المقياس الحقيقي الذي تقوم عليه سياسة التوزيع في ظل النظام الاقتصادي الإسلامي ويصبح العمل هو الوسيلة الشرعية لملكية العمل ويعطي المنهج الإسلامي أهمية كبيرة للعدالة في توزيع الدخول والثروات كهدف أساسي له وقد تمثل ذلك في الزكاة وقسمة الفيء والغنيمة والميراث وتحريم الربا وفي نظام الكفارات والصدقات والنذور والعارية والقرض الحسن والهبة والمنحة والوقف والضيافة وتوزيع الأراضي وغير ذلك.

فلسفة الإسلام المالية

وللمال في الإسلام فلسفة خاصة تختلف عن أي نظام اقتصادي آخر فالملكية لله عز وجل: وآتوهم من مال الله الذي آتاكم، (النور:33) وأعطانا المال وبين لنا كيف ننفقه وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، (الحديد: 7).

أي أننا ننفق من هذا المال تبعاً لنظرية الاستخلاف، وهذه النظرية تعني أن ملكية المال لله سبحانه كما يريد المستخلف مثل الوكيل يتصرف كما يريد الموكل، فالفرد في الإسلام له حرية التصرف والمنفعة بالمال في حدود الضوابط التي تتفق مع الشريعة، ومادام المال ملكاً لله فلابد أن يجمع بالطريق الذي يريده الله سبحانه وتعالى، ويوزع بالطريقة التي يريدها لهذا وجدنا أن الإسلام بين وسائل كسب المال فحرم الربا، وأباح شركات المضاربة وأنواع الشركات الأخرى المختلفة طالما لا تتعامل في حرام كما حرم الاحتكار والغش وأكل أموال الناس بالباطل، بحيث يكون الكسب حلالاً طيباً. وهناك حقوق للآخرين في هذا المال كالزكاة والصدقة ونفقات الأقارب، وهذا لا نراه في أي نظام اقتصادي آخر. وبعد الكسب والتوزيع نجد الاستهلاك فصاحب المال والمستخلف فيه من الله ليس له أن ينفق من هذا المال إلا بقدر حاجته إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، (الإسراء: 27) فيحرم عليه أن يبذر، فالمال في الإسلام إذن يجمع بالطرق الحلال وينفق في الحلال.

وقد يدهش كثير من الناس عندما نقول إن الاقتصاد والمال أساس هذا الدين فالقرآن الكريم يقول: المال والبنون زينة الحياة الدنيا، (الكهف: 46)، ويقول: وأمددناكم بأموال وبنين، (الإسراء: 6).

ويقول الشيخ الغزالي يرحمه الله: إن الفقر لا يقيم دولة ولا أمة ولا ينصر دولة وقلة ذات اليد لا تحمي شعباً، وحتى تنهض الأمة وتقوى، لابد من وجود المال والبنين، إن الإسلام دين عظيم يقول للإنسان أنت سيد مستقبلك أنت صانع مستقبلك في الدنيا والآخرة نبي الله يوسف عليه السلام كان عفيفاً نظيفاً وعندما طلب الولاية على خزائن الأرض لم يقل للملك اجعلني على خزائن الأرض لأني نظيف عفيف وإنما قال له: إني حفيظ عليم وذلك من مقومات العمل في الاقتصاد والمال.

والاقتصاد الإسلامي يعني كل التوجيهات الإسلامية المتعلقة بالمال والمعيشة وتطبيقها في حياتنا. وهذه التوجيهات تدخل فيها العبادات مثل الزكاة. وهي المؤشر للجانب الاقتصادي في الإسلام، وعندما نقول مؤسسة اقتصادية إسلامية نقصد بذلك مؤسسة تطبق كل توجيهات القرآن فيما يتعلق بالمال. وإذا كان المسلمون اليوم يعيشون أزمة اقتصادية طاحنة أدت إلى تخلفهم وتأخرهم، فإن تطبيق منهج الاقتصاد الإسلامي بمفهومه الصحيح كفيل بالقضاء على هذه الأزمة الاقتصادية والنهوض بالمسلمين.

إن تطبيق المنهج الاقتصادي الإسلامي يضمن تحقيق النهوض الاقتصادي في المجتمعات الإسلامية، لأن النظريات الاقتصادية الرأسمالية والاشتراكية فشلت في تحقيق تقدمنا الاقتصادي، وأصبح ضرورياً إفساح المجال للتجربة الإسلامية.

والنتيجة الحتمية للبعد عن المنهج الإلهي في حل مشكلاتنا هو تحقيق قوله تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً، (طه: 124)، ونحن نعاني اليوم صوراً متعددة للمعيشة الضنك فمعظم الأغنياء يعانون من كثرة أموالهم لدرجة أنهم أصبحوا عبيداً لثرواتهم والفقراء يزدادون فقراً ويعانون من عدم القدرة على تلبية حاجاتهم ولا مخرج لنا من هذا الوضع المأساوي سوى بالعودة للمشروع الحضاري الإسلامي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"