من خارج المكان.. قد ترى رام الله

05:00 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسن العديني

إن الرمز الصارخ ليوم 15 مايوهو الزلزال الكبير والضياع الأعظم، اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم وقيام دولة «إسرائيل» فوق الأطلال والركام.
ليست بداية ملتوية لاستذكار النكبة والنكسة في يوم يتوسط بالزمان 15 مايو/أيار و5 يونيو/حزيران، فقد أعادني كتاب «رأيت رام الله» للشاعر مريد البرغوثي إلى «خارج المكان» للمفكر الأشهر «إدوارد سعيد». الصلة عميقة فيما أعتقد، ليس بدلالة التاريخ، وإنما بما قادت إليه سياسات الرئيس المصري الأسبق أمور السادات نحو كامب ديفيد وما تناسلته من تسويات ومفاوضات وحروب كذبت ما جزم به أن أكتوبر هي آخر الحروب.

ذلك أن اتفاق أوسلو يكشف عن فظاعات وفضائح ألمحت إليها إشارات إدوارد، وبينتها رحلة العودة المتعبة لمريد حيث «الآخرون أسياد المكان». ومع صعوبة الانتقال في أجرومية اللغة، وفي التعقيدات الفلسفية بين الناقد الداهية و الشاعر الذي تتمازج عنده المرارة والعذوبة، فإن المشترك هو خرائب العائلات المبعثرة في أرجاء الأرض، وحتى الموتى تتوزعهم المقابر في جميع البلدان و في كل القارات.

في خارج المكان تطل القدس من غبار التاريخ ذكرى عابرة في حياة إدوارد سعيد الطفل، مقابل حضور كثيف للقاهرة الغنية والضاجّة مع أم حنون مثقفة و أب باذخ الثراء ومستبد شديد التكتم. وفي إقاماته المتقطعة في القدس تحتل الشهور الأخيرة من 1947 تصوير أحياء هادئة تتجسد فيها المدينة عربية صرفة في شطرها الغربي الطالبية، قبل أن تغدو في زيارته بعد 45 سنة مكاناً لعائلات مهاجرين من بولندا وألمانيا والولايات المتحدة. لكن هناك في القدس في ذلك الزمان مظهراً كاشفاً للتواطؤ البريطاني، فالمعابر ونقاط التفتيش يتولاها إنجليز في ظروف توتر ينصب فيها التحري والإلزام بالتصاريح على العابرين العرب. وفي الأجواء المشحونة تلك، تحرص أسرته على التحدث بالعربية متجاهلة الإنجليزية المستخدمة في منزلهم بالزمالك، حيث يفاخر الأب بجنسيته الأمريكية. أكان هذا تأكيداً للذات فيما تبدو فلسطين على وشك الضياع؟
ومن فرط خوفهم لا يمشي الأطفال العرب فرادى عند عودتهم من المدرسة، و كانوا أربعة بينهم إدوارد عندما فارق صديقه اليهودي «عزرا» قبل مغادرته القدس عائداً إلى القاهرة. وكان عزرا واقفاً بمفرده يشاهد صاحبه للمرة الأخيرة في لحظة يلوح فيها الجسر المهدوم بين العرب والفلسطينيين. وتترسب صور المأساة في ذاكرة الطفل، ويحملها معه إلى الولايات المتحدة ليغدو عالم الأدب المقارن مصدر قلق ل«إسرائيل». وحين يعود إلى القدس زائراً أمريكياً يسأله موظفو الهجرة عن زمن مغادرته «إسرائيل» فيجيبهم دائماً تركت فلسطين في ديسمبر/كانون الأول 1947.
في أحد الصباحات يرن جرس منزله، ويفتح ليجد زميلته اليهودية في الجامعة ويأذن لها فتطوف الشقة ثم تنصرف. وحين يسألها تقول بأنها أرادت أن تعرف كيف يعيش. أما نتنياهو الذي كان سفيراً ل«إسرائيل» في واشنطن فقد انزعج حينما اكتشف أن الجالس جواره «إدوارد سعيد» فنادى المضيفة وطلب أن ينتقل إلى مقعد آخر. وفي زيارة إلى لبنان ذهب إلى الجنوب ومن جوار الأسلاك ألقى بحجارة قليلة باتجاه فلسطين، وأخذت الدعاية الصهيونية الصور وشنت حملة ضارية.
يقدم مريد البرغوثي صورة رديفة. ففي الجولان السورية يمد يده فوق الأسلاك ويقبض بأغصان شجرة برية، ويقول لحسين مروة الذي كان يجاوره هذه الأرض المحتلة مجسدة، ليست خبراً في نشرة الأخبار، ويجيب حسين مروة من عيونه وكانت إجابة مبلولة.
وثمة مفارقات ومشابهات فابن رام الله كان أيضاً في القاهرة يوم احتلت «إسرائيل» الضفة الغربية، ولكنه لم يعد طفلاً فهو يدرس الأدب الإنجليزي في جامعة القاهرة، وعلى عكس الأرستقراطي المقدسي ينتمي البرغوثي إلى عائلة فلاحية تزرع الزيتون وكان يؤدي الامتحان في سنته النهائية؛ فرحاً بالعودة إلى الأسرة التي تعدّ للاحتفاء بأول أبنائها المتخرجين من الجامعة، لكنه يسيح في الدنيا ثلاثين عاماً، يموت خلالها أبوه ويوسّد أخوه وعائله في الحفرة الضيقة بإحدى مقابر عمان.
في غربة مريد تتناثر الأسرة في الشتات بين قطر وبيروت وبودابست وعمان ويبقى الأب والأم في رام الله، وإذ يسعون إلى لم الشمل فهم يتدبرون الالتقاء في أحد فنادق عمان، حيث الحياة حالة من السفر والارتحال.

ولم تزل فلسطين واثقة باستفاقة أجيال سوف تلزم التاريخ بالتخلي عن مراوغاته وفظاعاته حتى يجمعها من شتاتها وعذابها. ومن خارج المكان قد نمر من رام الله ونسترد القدس.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"