عام الديون السيادية والأزمات

01:40 صباحا
قراءة 4 دقائق

لا أتصور أنه يمكن اختيار عنوان اقتصادي لعام 2011 سوى انه عام الديون السيادية، رغم أنه ليس منفصلاً عن بقية أمراض الاقتصاد العالمي الذي لم يخرج بعد من الركود .

وحسب تقديرات متفائلة وقت الأزمة المالية العالمية والركود الاقتصادي الذي أدت إليه كان من المتوقع ان يبدأ الاقتصاد العالمي في التعافي منذ 2010 على أن يكون عام 2011 عام نمو اقتصادي . إلا أن التعافي الاقتصادي العالمي لم يتسق مع التوقعات، وبدت الأزمة المالية العالمية أعمق من ان تتجاوزها إجراءات التصحيح من ضخ تريليونات من أموال الحكومات في القطاع المالي لمنع الإفلاسات والانهيارات . ومع استمرار الحلول الجزئية، من دون أي إجراءات جذرية تعالج من الأساس مشكلات الاقتصاد العالمي وقطاع المصارف وأسواق المال تحديداً، منذ 2008 كان منطقياً أن تبرز مشكلة الديون السيادية كأحد أعراض المرض العضال في القطاع المالي العالمي التي لم تعالج .

أزمة المديونية لحكومات الاقتصاديات الرأسمالية ليست جديدة، ومنذ العقدين الأخيرين من القرن الماضي وعجز الميزانية في الاقتصاديات المتقدمة يتجاوز الحدود الآمنة في أغلب الأحيان إلا أن النمو الاقتصادي شبه المتواصل، وابتكارات القطاع المالي لتعظيم الأرباح وتضخيم قيمة الأصول بوهمية هائلة ساعد على تحمل الاقتصاديات الرئيسة في العالم لنسب العجز في الميزانيات العامة . على الوقت نفسه، كانت الفقاعات الاقتصادية تتضخم ولا يتم التخلص منها تماماً في دورات النمو والركود التقليدية في الاقتصاديات الرأسمالية . ومن بين عقد الانتفاخ الوهمي التي ظلت عالقة وأصبحت مزمنة استمرار تعاظم الديون السيادية .

ومع عدم التعافي الاقتصادي من الأزمة في 2010 بدأت أزمة الديون في اضعف حلقاتها التي استهدفتها أسواق السندات والقطاع المصرفي التجاري وهي اليونان . واذا كانت دول أوروبية أخرى عانت من ارتفاع الفائدة على سندات دينه الحكومي نتيجة أزمة الديون السيادية مثل ايرلندا والبرتغال، الا ان اليونان كانت تعاني من مشكلات اقتصادية ذاتية أعمق .

وسارعت حول منطقة اليورو، بقيادة المانيا وفرنسا، الى تدبير دعم مالي للدول المتعثرة نتيجة ارتفاع مديونياتها الحكومية بهدف الحفاظ على العملة الأوروبية الموحدة، اليورو .

وتشجعت أسواق السندات بالدعم الأوروبي لايرلندا والبرتغال وقررت الضغط بشأن اليونان لاعتبارات عدة: أولها أن الاقتصاد اليوناني صغير نسبيا ولا يشكل سوى اثنين في المئة من اقتصاد أوروبا، وثانياً لأن المقرضين التجاريين أي البنوك التجارية ومؤسسات المال الخاصة التي تملك سندات دين يونانية يشكون في إمكانية تحصيل مستحقاتهم على اثينا . وفجر ذلك الضغط أزمة أوروبية هددت اقتصاديات اكبر تعاني من أزمة دين سيادي مثل أسبانيا وايطاليا، وبدأت دول رئيسة مثل فرنسا بخطر فقدان تصنيفها الائتماني حتى المانيا شهدت في مرحلة ما خلال العام ارتفاع الفائدة على سندات الدين الحكومية الألمانية .

ومع أن دولاً أخرى مثل اكبر اقتصاد في العالم الولايات المتحدة الأمريكية لديها ازمة مديونية حقيقي اذ يصل حجم الدين السيادي الأمريكي إلى ما يزيد على حجم الناتج الأمريكي (عند أكثر من 16 تريليون دولار) فإن تركيز الازمة في أوروبا يعكس تردي وضعها الاقتصادي عموماً ما جعلها أكثر تأثرا بالأزمة المالية العالمية التي بدأت في أمريكا عام 2007 .

فالواقع أن أزمة الديون السيادية ما هي إلا عرض آخر من أعراض الأزمة المالية العالمية والركود الاقتصادي العالمي . لذا لا يمكن تصور أن كل الجهود التي بذلت مع نهاية العام المنصرم من توفير أموال لدعم الدول الأوربية المتعثرة والتشدد في معايير السياسة النقدية والمالية لدول اليورو كفيلة بحل ازمة الديون السيادية . الأرجح إن استمرار تلك الجهود في عام 2012 يمكن أن يقلل مخاطر انتقال أزمة الديون عبر الاطلسي إلى الاقتصاد الأمريكي إذ إن أزمة ديون سيادية أمريكية يمكن ان يدخل الاقتصاد العالمي في أزمة أعمق من الأخيرة ويؤدي الى كساد طويل الأمد .

عام الديون لم ينته بنهاية 2011 ويدخل العالم 2012 وهو مثقل بأزمة أخرى تضاف إلى أزمات الاقتصاد العالمي المتتابعة في السنوات الأربع الأخيرة . صحيح ان الجهود الأوروبية والعالمية حالت من دون انهيار اقتصادي عالمي جديد، لكن هذا لا يعني أن أزمة الديون السيادية لم تكشف أمراضا أخرى في الاقتصاد العالمي العليل . وربما نشهد في 2012 تبعات جديدة من قبيل انكشاف النظام المصرفي وأسواق المال عامة على خسائر جديدة أمكن التغطية عليها خلال السنوات الماضية .

كما ان الحكومات استنفدت تقريبا كل السبل التي بحوزتها لمساعدة القطاع المالي العالمي، في الوقت الذي لا يتوقع أن يتراجع المستثمرون عن هدفهم بتعويض الحكومات لهم عن كل نتائج الأزمة المالية العالمية . هذا هو السبب الحقيقي لمراجعة كثير من المؤسسات الدلية واغلب المحللين لتوقعاتهم للاقتصاد العالي خلال الاشهر الاثنى عشر المقبلة .

إجمالاً، عام الديون سيسلم الراية لأزمة أو أزمات أخرى جديدة تبرز خلال العام الجديد وكل ما تسعى إليه الحكومات هو ألا تنفجر اي من تلك الأزمات لتؤدي الى كساد تام . مع ملاحظة ان هذا العام هو عام انتخابات في فرنسا والمانيا وأمريكا، وستسعى حكومات تلك الدول إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه قدر المستطاع: أي مزيد من المشكلات ومزيد من المسكنات، حتى لوكانت تلك وصفة لتدهور حالة المريض تماماً بعد 2012 المهم تمر الانتخابات .

* خبير اقتصادي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"