البرازيل في عصر «الهشاشة القطبية»

02:10 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

عرفت البرازيل تحولات متسارعة خلال فترات قصيرة من تاريخها المعاصر، وغلب على هذه التحولات طابع الانقطاعات المتكررة وغياب الاستمرارية على مستوى البنيات السياسية والاقتصادية والمجتمعية، حيث إنه ومنذ إسقاط الديكتاتورية العسكرية في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، لم تشهد البرازيل استقراراً مؤسسياً حقيقياً؛ الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على تجسيد الأهداف التنموية وعلى تطوير البناء المؤسسي للدولة، وجعل البرامج الجيوسياسية والجيواستراتيجية التي تبنتها النخب السياسية الحاكمة، تتميز بالضعف وغلب عليها سمة المرحلية والانتقائية، نتيجة لغياب تقاليد راسخة في منظومة إدارة الحكم وتسيير مؤسسات الدولة الوطنية بعيداً عن صراعات الفاعلين السياسيين الرئيسيين.
وتمثل البرازيل الآن، في أعين الكثير من المراقبين الدوليين، النموذج الأبرز الذي يتجلى فيه بشكل واضح غياب التقاليد الراسخة في تسيير مؤسسات الدولة بالنسبة للدول الصاعدة إلى جانب جنوب إفريقيا وتركيا، حيث إنه وبعد مدة جد قصيرة من الاستقرار السياسي الديمقراطي الذي عرفته البرازيل في ظل حكم اليسار منذ وصول الرئيس «لولا داسيلفا» إلى سدة الحكم، عرفت الفترة الثانية من حكم الرئيسة «ديلما روسيف» اضطرابات سياسية كبرى وأزمات اقتصادية عديدة، أفضت في نهاية المطاف إلى إقالتها من طرف مجلس الشيوخ البرازيلي، وإلى تعيين رئيس مؤقت ينتمي إلى تيار وسط اليمين. ودخلت بذلك البرازيل في مرحلة جديدة من انعدام الاستقرار السياسي، يرى المتابعون للشأن المحلي بأنها ستنعكس حتماً على البرامج الجيواستراتيجية الطموحة التي شرعت البرازيل في تنفيذها خلال فترة حكم اليسار، والتي تميّزت بنزوع كبير نحو الاستقلالية في مواجهة مشاريع الهيمنة الأمريكية.
ويمكن القول في هذا السياق، إن البرازيل كانت قد رسمت خطوط سياسة وطنية جديدة للدفاع تتميز باستقلالية شبه كاملة عن النفوذ الأمريكي في المنطقة، جعلتها أكثر قرباً بالتالي من رهانات الأنظمة اليسارية في أمريكا الجنوبية، مثل كوبا وفنزويلا. فقد أصدرت البرازيل في ديسمبر/كانون الأول من سنة 2008 مرسوماً يقضي بتحديد وصياغة الاستراتيجية الوطنية للدفاع، ووضعت في مقدمة أولوياتها الدفاع عن السيادة الوطنية واستقلالية برنامجها المتعلق بالصناعات العسكرية، وسعت من خلال هذا البرنامج، إلى دعم وتطوير المجالات المرتبطة بالفضاء والاتصالات والأبحاث النووية؛ وقامت السلطات السياسية البرازيلية لأول مرة في تاريخها بتحديد إطار خاص باستعمال القوات المسلحة في سياق رؤية جديدة تهدف إلى تطوير وتحديث قدراتها وكفاءاتها بالرغم من غياب أي تهديد خارجي مباشر، على مستوى دول الجوار الإقليمي.
وتشير الإحصائيات الرسمية المتوافرة، إلى أن الدولة البرازيلية قامت بخطوات جبارة، خلال فترة حكم اليسار، من أجل تحديث قدراتها العسكرية، وفق ما يؤكده التطور المطّرد لميزانية الدفاع التي انتقلت من 25.3 مليار دولار سنة 2008 (المرتبة 12 عالمياً على مستوى الإنفاق العسكري)، إلى 33.1 مليار دولار سنة 2012 (المرتبة 11 عالمياً)، حيث ارتفعت نسبة الميزانية العسكرية ما بين سنة 2003 وسنة 2012 إلى ما يقارب 56 في المئة. وقد هدفت البرازيل من وراء تحديث أدواتها الحربية ومؤسستها العسكرية إلى الاستجابة للرهانات المتعددة بالنسبة لقوة دولية صاعدة تمتلك جغرافيا وطنية بحجم قارة بأكملها. ومثلت مسألة مواجهة مهربي المخدرات وزعماء الجريمة المنظمة إحدى التحديات الكبرى بالنسبة للقوات المسلحة البرازيلية التي خاضت حرباً حقيقية ضد مجموعات الإجرام منذ سنة 2011، واستخدمت في هذه العمليات العسكرية معدات ثقيلة مثل المدرعات وطائرات الهيلكوبتر في مناطق حضرية مثل مدينة ريو، من أجل مطاردة المجموعات الإجرامية التي كانت متحصنة داخل بعض الأحياء.
وتؤكد هذه المعطيات التي يذكرها الباحث الفرنسي «فيليب بولنجي»، أن البرازيل كانت تتجه بكل ثقة نحو بناء قواعد دولة صاعدة قوية قادرة على منافسة القوى الغربية، وذلك بالاعتماد بشكل أساسي على تحالفاتها الاستراتيجية مع دول البريكس التي ظلت تحافظ خلال سنوات عديدة على معدل نمو اقتصادي جد مرتفع، جعل الخبراء الدوليين يتوقعون انتقال مركز الثقل العالمي من الدول الغربية الكبرى نحو مجموعة البريكس بقيادة الصين وروسيا، لكن تباطؤ نمو الصين والعقوبات التي يفرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية ضد روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية، اُعتبرت بمثابة عوامل مؤثرة جعلت هذه المجموعة الصاعدة تواجه تحديات صعبة، باتت تؤثر بشكل لافت في قدرتها على تجاوز الهيمنة الغربية على الاقتصاد العالمي، بالرغم من كل المحاولات التي بذلتها من أجل خلق نظام مالي واقتصادي جديدين قادرين على منافسة منظومتي الدولار واليورو.
ونستطيع أن نستخلص تأسيساً على ما سبق، أن «الردة» السياسية التي عرفتها البرازيل نتيجة للضغوطات الكبيرة التي مارستها قوى اليمين المتحالفة مع الشركات الأمريكية المتعددة الجنسيات، ستؤدي في زعمنا إلى إعادة النظر بشكل تدريجي في المشاريع الجيوستراتيجية التي سعى اليسار إلى تجسيدها، من أجل تحويل المؤسسة العسكرية البرازيلية إلى عنصر أساسي وحاسم في إعادة بناء منظومة الدفاع الوطني بشكل يمكنه أن يسهم في دعم الاستقلال الاقتصادي للدولة. ذلك أن غياب الاحترافية السياسية لدى الدول الصاعدة وضعف المؤسسات السياسية السيادية والفاعلة التي في الأغلب تتأثر وظائفها الأساسية بناءً على الانتماءات السياسية لأعضائها، إضافة إلى ضعف القدرة على التحكم في تسيير قواعد اللعبة السياسية التعددية، تمثل في مجملها عناصر تقلص بشكل كبير من قدرة الدول الصاعدة مثل البرازيل، على لعب دور أكثر تأثيراً في تسيير شؤون العالم، وتجعل مستقبلها مرهوناً بمصير التجاذبات السياسية الداخلية والخارجية، وبخاصة في هذه المرحلة التي بدأ العالم يدخل فيها عصراً هو أشبه ما يكون بعصر «الهشاشة القطبية»، بعد فشل كل المشاريع التي حاولت - منذ بداية الألفية الجديدة - التأسيس لتعددية قطبية جديدة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"