التاريخ ساخراً

04:52 صباحا
قراءة دقيقتين
يحيى زكي

من أبرز مفارقات فكرنا المعاصر تلك المتعلقة بمسألة «الوعي العربي» بالتاريخ. في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين وبفعل محاولات تجاوز نكسة يونيو/حزيران 1967، لم يكن يمر عام إلا ونجد ندوة أو مؤتمراً أو لقاء أو حتى أطروحة حول ضرورة تكوين رؤية خاصة بنا حول التاريخ، تتخلص من إرث الاستعمار ومفعوله المؤثر في مفاصل ثقافتنا كافة، فالتاريخ كما درسناه في المناهج التعليمية محمل بذلك الإرث. فعندما يشير أحدنا على سبيل المثال إلى القرون الوسطى فإنه لا يعني تلك الحقبة المظلمة في التاريخ الأوروبي، لكنه يقصد تاريخ العالم ككل، مع أنها كانت أزهى عصور الحضارة العربية.
والسؤال الآن، إلى أين وصلت هذه الرؤى والأطروحات التي طمح بعضها إلى تأسيس مدرسة عربية في التاريخ؟ والإجابة ببساطة، لقد توقفت أو صمتت أو اكتشف أصحابها ألاّ جدوى من أفكارهم.. سكتوا في وقت حرج تتفجر فيه الأسئلة الملحة: هل يعيش العرب قيم العصر الحديث كما يبدو من الظاهر؟ نحن نستورد الأفكار ونرددها، لكننا لا ننتجها أو نطبقها في سلوكياتنا. هل نحيا مرحلة تراجع طويلة تتطلب تأملاً جديداً في قوانين صعود وأفول الحضارات، هل تتجاور في لحظتنا الراهنة كافة الأزمنة في الوقت نفسه؟ الأمر الذي يؤدي إلى استحالة الحسم تجاه أي فكرة. هل التاريخ يخضع للتطور والتقدم باستمرار، وفق منظور عصر التنوير الغربي، أم تهيمن عليه رؤية دائرية، كما يحلو لمعظم مفكرينا القول وهم يتناولون خصوصيتنا التاريخية؟ هل قدر المنطقة الوقوع فريسة للتحديات الدائمة والاستهداف المتواصل؟ وهل الاستعمار بأشكاله المتعددة تحول إلى سمة مميزة لها؟ وماذا عن تجارب الاستجابة لهذه التحديات في الماضي؟ وإلى أي مدى يمكن الاستفادة من تلك التجارب بوعي ومن دون أن تتحول استجابتنا الجديدة إلى سخرية أو ملهاة؟
من جانب آخر كيف نكتب وقائع ماضينا بدقة ومئات الآلاف من مخطوطاتنا في متاحف ومراكز بحث تقع خارج العالم العربي؟ بل كيف نرصد حتى تاريخنا في القرن العشرين مع هيمنة ثقافة لا تعرف أو لا تعترف أو لا تهتم بالوثائق؟ وماذا عن مدارس تاريخية مزدهرة الآن لا تلتفت إلى التاريخ الرسمي، وتركز جهودها على الأحداث كما صنعها البسطاء من البشر.
نحن نعيش حالة عقم فكري، يستحيل فيها الحديث عن مدرسة عربية في التاريخ، والمطالبة بفتح حوار شامل وحقيقي حول جذور مكونات لحظتنا الراهنة ومآلاتها في المستقبل تخضع بدورها لقانون التمني أو الحلم، فالتعاطي الآن مع التاريخ بوعي جمعي يسبب الصداع والحساسية للكثيرين والاستغراب لدى أجيال لا تعرف إلا التقنيات فائقة الحداثة، ويقف التاريخ بينهما ليسخر من الطرفين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"