عادي

مستقبل العواطف في خطر

23:02 مساء
قراءة 6 دقائق

القاهرة: وهيب الخطيب

لا يمكن للإنسان أن يعيش بلا حب، الأمر الذي يبدو واحداً من متطلبات استمرار البشرية على سطح الأرض، أو بعبارة الشاعر السوري نزار قباني «الحب في الأرض بعض من تخيلنا لو لم نجده عليها لاخترعناه»، ولطالما اخترعنا الحب فإننا نبحث عن طريقة التعبير عنه.

ويجر الأخير، أي التعبير عن الحب، أو التعبير عن الذات عموماً حديثاً بالتبعية عن الأدب، القادر دوماً ليس فقط على التعبير إنما على الإشارة للإنسان على مساحات داخلية ربما كان يجهلها، ومن ثم القدرة على التواصل بين بني البشر، وحمل الرسائل بينهم، فاللغة والأدب على وجه الخصوص مرآة لعالمنا، يعكسان المشاعر والعواطف وهما في الوقت ذاته أداة للتعبير عن أنفسنا.

تتعدد مسارات التعبير الأدبية، لكن بما أن الحديث الآن عن الحب، فإن كلامنا سينصب على الأدب الرومانسي، الذي قد يعاني بعض الغياب، أو الإقصاء من خلال التقليل من دوره في هذا العصر الذي يرى الكثيرون أننا لم نعد فيه في احتياج إلى الشعر الفيكتوري، ولا أن نلجأ لمحاكاة نصوص مجنون ليلى، فالعالم متشظ ومليء بالتفاصيل، والأرض ليست يباباً كاملًا ولا عامرة حد الفراديس.

ومع كل هذه الإشكاليات التي يعيشها الإنسان حالياً، ثمة ما يدفعه إلى البحث عن التعبير عن الحب مهما بدت الصعوبات، وهي الصعوبات التي دفعت بالروائي والمفكر الإيطالي أمبرتو إيكو لتذييل رواية «اسم الوردة» بالحديث عن المصاعب في قول «أنا أحبك» في عصر استنفدت فيه هذه الكلمات.

أسرار

وقال إيكو، في الرواية التي صدرت عام 1984 «أفكر في موقف ما بعد الحداثة هو كرجلٍ يحب امرأةً راقيةً جداً، ويعلم أنه لا يستطيع أن يقول لها: أحبك بجنون، لأنه يعلم أنها تعرف، وأنها تعرف أنه يعرف أن هذه الكلمات قد كتبت من قبل باربرا كارتلاند»، في إشارة إلى البريطانية كارتلاند أو سيدة روايات الحب والرومانسية التي ألفت نحو 650 كتاباً وقد تكون أكثر المؤلفين إنتاجاً في العالم.

على أيّ حال، في الحب عموماً نمارس خصوصيتنا، نحب أسرارنا، ربما إلى الدرجة التي اعتقد فيها العرب قديماً حد الربط بين الحب والجنون، فهل يمكن أن نمارس رومانسيتنا في عالم التكنولوجيا الفائقة؟ أو هل لا يزال هناك أدب رومانسي؟

غالباً ما يجري تحديد الرومانسية كنوع أدبي وفني بالفترة التي تمتد من أواخر القرن الثامن عشر إلى أوائل القرن التاسع عشر. وإن ظلت كحركة ثقافية وكمجموعة من الأفكار التي تؤثر في الفن المرئي والأدب والفلسفة والسياسة، تضرب بجذورها خارج هذه الحدود المعينة.

ومع هذه الجذور التاريخية، يستمر تأثير الرومانسية في القرن الحادي والعشرين. عندما نفكر في صفات الخيال أو العالم الطبيعي أو تكوين الذات، فإننا عادة ما ندعو فكرة أو اثنتين مما أصبح يعرف بالرومانسية.

في ثقافة القرن الحادي والعشرين، تظهر الأفكار الرومانسية عادةً عندما يجمع الأدباء والفنانون بين العالم البشري والعالم الطبيعي. على سبيل المثال، تنشئ روايات الأستراليين بيتر كاري أو تيم وينتون أحياناً نوعاً من التأثير الميتافيزيقي بين العالم الطبيعي وتشكيل أو تبدد الذات. أو نرى خيالًا من اندماجنا مع الطبيعة، مشوباً ب «الإنسانية الوليدة» في فيلم جيمس كاميرون «الصورة الرمزية». حتى حلقة التغذية الراجعة للاكتئاب ونهاية العالم التي تظهر في فيلم «Melancholia -ميلونخوليا» من تأليف وإخراج لارس فون ترير، تدين بشيء ما للرومانسية.

تأصيل

مصطلح «الرومانسية» مشتق من كتابات بعض المفكرين الألمان والإنجليز في القرن الثامن عشر لثقافة العصور الوسطى. إذ جرى تقديم الرومانسية، مثل تلك التي عُرضت في القصص الفرنسية للملك آرثر في القرن الثالث عشر، نموذجاً من الكتابات غير الواقعية. وقدمت العصور الوسطى أيضاً مجتمعاً متخيلًا من الانسجام المتكامل الذي يتناقض مع التحولات والاضطرابات في أواخر القرن الثامن عشر في أوروبا.

وفي كثير من الأحيان، يُنظر إلى الرومانسية على أنها مواجهة لعصر التنوير. ففي عام 1784، اقترح إيمانويل كانط شعاراً للتنوير «تحلى بالشجاعة لاستخدام فهمك الخاص» وهذا ما دفع إلى التساؤل: ما هي طبيعة هذا الفهم؟

هنا، الأمر لا يتعلق بالرومانسية كنزعة، تشير إلى الموقف أو التوجه الفكري الذي ميز العديد من الأعمال الأدبية والرسم والموسيقى والهندسة المعمارية والنقد والتأريخ في الحضارة الغربية على مدى فترة من أواخر القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر، وتمثلت في رفض مبادئ النظام والهدوء والوئام والتوازن والمثالية والعقلانية التي ميزت الكلاسيكية بشكل عام وأواخر القرن الثامن عشر والكلاسيكية الجديدة على وجه الخصوص، فضلًا عن كونها إلى حد ما رد فعل ضد التنوير وضد عقلانية القرن الثامن عشر والمادية في كليتها، لتؤكد على الفرد والذاتية واللاعقلانية والخيالية والشخصية والعفوية والعاطفية والرؤيوية والمتسامية.

وقدم شعراء مثل شارلوت سميث، وويليام بليك، وويليام وردزورث، وبيرسي بيش شيلي وجون كلير انتقادات فنية لما اعتبروه الاستغلالية والعقلانية الباردة في عصرهم. إذ وجد هؤلاء الشعراء الإنجليز ملجأ لفكرتهم عن الإنسانية الحرة والمبدعة في الطبيعة والخيال. وحقق بليك هذا من خلال تحولاته الشعرية المستوحاة دينياً في لندن.

وحيث وضع بليك تنقيحاً دينياً خاصاً وجذرياً، أنشأ وردزورث تفاعلًا شعرياً بين الخيال والطبيعة في مجموعته التاريخية عام 1798 مع صمويل تايلور كوليردج «قصائد غنائية». في قصيدته Tintern Abbey، يحدد وردزورث فكرة الجلالة التي يمكن أن تميز العلاقة الرومانسية بين الإنسانية والطبيعة. يقابل وردزورث الطبيعة ولكن فيه يسمع «موسيقى البشرية الحزينة».

مخاوف

وبعيداً عن الحديث التاريخي، فإن عصر ما بعد الحداثة، من المؤكد أنه ينتج رؤى ليست تافهة أو غير أخلاقية بسبب عدم جديتها، إنّما هي رؤى بنت الاعتقاد في أن العالم ذاته لم يعد سوى شظايا وهجين، الأفكار والكتابات والأنساق مجرد لعب، ومحاكاة ساخرة، ومعارضة، وموقفها ساخر مضاد للأيديولوجيا، وأسلوب يسخر مما كانت الحداثة تعده فناً رفيعاً.

ومن هذا المنطق، وفي ظل هذا التعقيد والتشابك، ثمة من يتحدث عن العواطف التكنولوجية، وهي إضفاء السمات الإنسانية على المخترعات التكنولوجية، الأمر الذي يفتح باب مخاوف المفكرين والفلاسفة على مستقبل العواطف الإنسانية، وطبيعتها الخاصة التي لا يمكن قياسها أو تأطيرها آلياً، وهو ما يدفعنا إلى البحث عن سبب غياب أو تراجع الأدبيات الرومانسية.

مع غياب الرومانسية في الشعر، يمكن الإشارة إلى حضور لافت لها في السرد، خاصة الروايات، الأمر الذي يمكن أن نتبينه خلال الإصدارات في السنوات الأخيرة. واحدة من بين هذه الإصدارات رواية «كاتيوشا» للروائي وحيد الطويلة، ورغم الاسم الذي يشير إلى نوع من القاذفات، فإنها تدور في إطار رومانسي، وبلغة مشبعة بالحديث عن الحب والعلاقات العاطفية بين الزوجين أو العشاق على نحو عام، أو هي فعلياً كما وصفت نقدياً «تتحدث عن الحب وفقدانه، تدور في عالم الذكورية والأنثوية وفي عالم دكتاتورية الحب، إن جاز التعبير».

رومانسية أخرى، نلمسها في رواية «الكل يقول أحبك» لمي التلمساني، وهي الرواية التي وصلت للقائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» 2023، إذ ترصد منعطفات الحياة العاطفية لخمسة مهاجرين وتعرض خواطرهم حول مسار حيواتهم واختياراتهم والأسئلة التي تحيرهم عن الحب والخيانة.

ويبدو أن المهاجرين يبحثون عن الرومانسية على نحو أوضح من المقيمين في البلاد، على الأقل داخل الأعمال السردية، إذ تتناول رواية «تحت سماء كوبنهاجن» لحوراء النداوي، تلقي رافد رسالة هدى التي تطلب فيها أن يترجم رواية لها من الدنماركية إلى العربية، فوجئ بأنها تعرفه معرفة راحت تطلعه على تفاصيلها تدريجياً. هكذا تتداخل فصول روايتها مع روايته هو لتلك العلاقة العاطفية التي نشأت بينهما عبر البريد الإلكتروني.

وقد لا ينافس أحد في الكتابة السردية الرومانسية حالياً، الروائي الجزائري الفرنسي واسيني الأعرج، أغزر الروائيين إنتاجاً، الذي يتناول في رواية «سيدة المقام» حكاية مريم، راقصة الباليه الوطني، في مجتمع يزحف بهدوء وطمأنينة نحو الانهيار الكلّي، مجتمع يعادي الحياة والأشواق والفرح وكل شيء جميل، بالخصوص عندما يأتي هذا العشق من امرأةِ رهنت حياتها كلّها لفنّها.

غياب
غيّرت التكنولوجيا من نظرة الناس للحب والرومانسية والطريقة التي نحب بها، والتعابير التي نستخدمها، فلم تعد هناك الشاعرة اليونانية «سافو» ولا الإنجليزي وليام شكسبير وجون دون وإليزابيث باريت براونينج، ولا عمر بن أبي ربيعة ولا العباس بن الأحنف ولا مجنون ليلى، ثم حديثاً إبراهيم ناجي وعلي محمود طه ولا نزار قباني.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4sa6hxrv

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"