أمريكا والأكراد.. تراجيديا الخائن والمغدور

03:55 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق

الآن يكتب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الفصل الثامن ولن يكون الأخير بالطبع في قصة الخيانة الأمريكية للأكراد.
لم يعايش الفيلسوف الشهير كارل ماركس قصة الخيانة الأمريكية المتكررة للأكراد، ولذلك لم يتخيل أن التاريخ يمكن أن يعيد نفسه ثماني مرات وليس مرتين فقط كما قال. غير أنه كان محقاً تماماً عندما اعتبر أن المرة الأولى تحدث كمأساة والثانية كمهزلة. وما يحدث حالياً من خيانة أمريكية جديدة هو المهزلة ولكن في أوبتها الثامنة.
لدى الشعب الكردي المشتت في صحاري ومرتفعات وأغوار تركيا وسوريا والعراق وإيران، حكمة قديمة تعلمها من معاناته الطويلة وحروب الكرّ والفرّ التي خاضها تقول «ليس لنا أصدقاء إلاّ الجبال». نحتت هذه الكلمات نفسها في أعماق الشعب المنكوب الذي يحارب لتحقيق حلمه القومي المستحيل بإقامة دولته المستقلة. وكما سحقته الدول الأربع التي يتوزع أبناؤه على أراضيها، فقد خانته القوى الكبرى الباحثة عن موطئ قدم في المنطقة.
ظلت أمريكا في مقدمة هذه القوى، ولم تتردد في استخدام الأكراد كأدوات والتلاعب بهم ثم التخلي عنهم بعد أن تنتهي حاجتها إليهم. ليس غريباً أن تفعل أمريكا ذلك، لكن الغريب بالفعل أنهم كانوا يعودون إلى التعاون معها دون أن يتعلموا من التاريخ. رغم أنهم في كل مرة كانوا يدفعون ثمناً باهظاً هو حياة الآلاف منهم.
الخيانات الثماني رصدتها مجلة «انترسيبت» الأمريكية وآخرها قرار الرئيس دونالد ترامب بسحب قواته من شمال شرق سوريا متخلياً عن الأكراد ومفسحاً الطريق أمام تركيا لشن هجومها الحالي.
ليس الأكراد هم الشعب الوحيد الذي خانته أمريكا، فهناك الفيتناميون الجنوبيون الذين قاتلوا معها في السبعينات من القرن الماضي ثم انسحبت وتركتهم للشيوعيين في الشمال يفترسونهم. إلاّ أن قصة الغدر بالأكراد هي الأغرب في التاريخ لأنها تتكرر بصورة مستمرة تدعو للدهشة بقدر ما تبعث على الرثاء.
الفصل الأول بدأ بعد الحرب العالمية الأولى، وشاركت فيه بريطانيا التي وقفت بالمرصاد ضد تحقيق أحلام الأكراد في تركيا والعراق بالاستقلال بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية. سمحت بريطانيا للعراق بسحق مملكة كردستان التي أعلنها الأكراد أوائل العشرينات. ثم تركت تركيا تمحو ما عرف بجمهورية أرارات الكردية. وفي الحالتين لم تتدخل أمريكا وكانت تلك خيانتها الأولى.
خيانتها الثانية كانت بعد سقوط حكم عبد الكريم قاسم في العراق والذي كانت تسلح الأكراد لمواجهته إلا أنها تخلت عنهم بعد الانقلاب ضده 1963 وأصبحوا وجهاً لوجه مع السلطة الجديدة. في السبعينات عادت إلى تسليحهم بالتعاون مع شاه إيران لاستنزاف العراق الذي كان جزءاً من المنظومة السوفييتية إلا أنها بعد المصالحة بين الشاه وصدام حسين تركت الأخير يجتاح الشمال ويذبح آلافاً منهم، ليسجل التاريخ وقائع خيانتها الثالثة.
الخيانة الرابعة حدثت في الثمانينات عندما استخدم صدام الأسلحة الكيماوية لإبادة آلاف منهم، وكانت أمريكا على علم تام بالجريمة وفضلت الصمت لأنه كان يحارب إيران ولذلك لم تفجر القضية إلاّ بعد ذلك بسنوات. الخيانة الأسوأ وهي الخامسة حدثت إبان حرب الخليج الأولى 1991 عندما أعطت الضوء الأخضر للأكراد في شمال العراق والميليشيات الشيعية المسلحة في الجنوب للتمرد المسلح ضد صدام الذي كان مشغولاً باحتلال الكويت ثم حرب تحررها. وبعد انتهاء القتال تفرغ للمتمردين بالداخل وارتكب ضدهم مجازر بشعة وتركتهم أمريكا يذبحون.
انتقل مسرح الخيانة السادسة إلى تركيا في التسعينات عندما تركتها أمريكا تشن غارات وحشية على الأكراد ولم تحاول حمايتهم. وقبل وخلال حرب الخليج الثانية 2003 اقترفت خيانتها السابعة وسمحت لتركيا بشن غارات شرسة عليهم امتدت إلى الأراضي العراقية. ولم يشفع لهم تحالفهم الطويل معها ولا مساندتها في غزو العراق.
الآن يكتب ترامب الفصل الثامن ولن يكون الأخير بالطبع في قصة الخيانة الأمريكية للأكراد. لن يخفف من وطأة جريمته تصريحه الأرعن بأنه سيدمر اقتصاد تركيا إذا تجاوزت الحدود المقبولة في هجومها الحالي. الشيء الوحيد الذي دمّره ترامب في الحقيقة هو مصداقية بلاده.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"